للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماماً واضطراماً وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفاً وزيفاً وثرثرة.

لماذا يقوى الأدب في الثورات والحروب؟ لأنها أثير ليقظة الشعور، ومظهر لحياة الرجولة!

لماذا قلَّ الأدب في العبيد وضعف في النساء؟ لأن الروح الشاعرة ماتت في إرادة العبد، والنفس المريدة فنيت في شعور المرأة!

أرجو ألا تفهم أني عنيت بقوة الأدب ما كان موضوعه شديداً كالحرب، وبضعفه ما كان موضوعه ليناً كالحب؛ فإن ذلك معنى لا يتجه إليه الذهن الباحث. وأي فرق تراه بين سفر أيوب الباكي، ونشيد الأناشيد الغزِل، وإلياذة هوميروس الحمِسة، في قوة الروح وفحولة الفن؟ إن القوة الروحية الشاعرة التي تخرج الأنشودة للجندي هي نفسها التي تخرج الأغنية للعاشق والمرثية للحزين. ولا يجوز أن تفرق بين هذه المقطوعات الثلاث إلا على الوجه الذي تفرق به بين آية من القرآن في وصف النار وبين آية أخرى في وصف الجنة. إنما عنيت بالأدب القوي ما صدر عن قوة الروح وصدق الشعور وسمو الإلهام وألمعية الذهن فدق معناه وصدق لفظه واتسق أسلوبه؛ وبالأدب الضعيف ما انقطع فيه وحي الذات عن آلة الفن، واحتجبت فيه صُوَر الحياة على مرآة الذهن، فهو تقليد قرد، أو ترديد صدىً، أو شعوذة مهرج!

إن الأدب البليغ كامنٌ في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برّز فيه، وإن لم ينتجه شجع إليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب القوي الحر محصوراً في ظلام العمى والجهل حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصون معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع،

<<  <  ج:
ص:  >  >>