للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العجب!

ثم أرسل نكتته الحاضرة وضحك ضحكته الساخرة فتنبه المجلس إلى أن الزهاوي سيتحدث، فسكت المتكلم وأصغي المستمع وتهيأت النفوس للسرور الشديد والضحك المتصل؛ وأخذ الشاعر يقول:

أرسلت إلينا الدولة العلية بعد جفاف الريق والمداد من شكوى الجهل والفساد، والياً يسير بالعراق في طريق العمارة والعلم، فقابله البغداديون باحتفال عظيم وفرح شامل. وكان لي يومئذ يد في إدارة التعليم كما تريده الدولة، فقال لي الوالي ذات يوم: أنا نريد أن ننشئ مدرسة للبنات فابحثوا عن دار تصلح أن تكون لها مكاناً. وكان تعليم البنت في ذلك العهد أملاً من آمال المصلحين تتقارع حوله الأقلام بالحجج في غير طائل. فقلنا إن الرجل رحب الباع في الإصلاح، ودللناه على جملة من الدور الكبيرة الصالحة، فكان كلما دخل داراً قال إن الأبصار تجرح البنات من هنا، والأسماع تسرق الأصوات من هناك؛ حتى لم يدع في بغداد داراً إلا عابها هذا العيب من طريق التوهم أو التخيل! وظهر من تصرف الرجل أن به بلاهة وغفلة، فخطر لي أن أتداعب عليه لأكشف حاله للناس فلا يستنيموا لحكمه. فقلت له: أفندم! لم يبق في البلد كله إلا مكان واحد أرجو أن يقع من هواك موقع الرضى. فقال: امض بنا إليه. فذهبت به إلى (منارة سوق الغزل) وصعدنا فوقها، فلم تكد قدمه تستقر على شرفتها العليا، وعينه تقع على سطوح بغداد وهي متطامنة تحت المأذنة العالية، حتى شهق من الفرح وصاح بملء فيه: نعم! نعم! هذا هو المكان المناسب!

ثم نزل وفي نيته أن يتخذ الأهبة من المقاعد والأدراج ليفتتح المدرسة! فقلت له: مولانا! لا بد أن تجمع الناس قبل الافتتاح لتقنعهم بتعليم بناتهم فإنهم سيئو الرأي في ذلك التعليم. ونجاح الأمر موقوف على أن يعتقدوا فيك التقى والورع. وسأدلك على أقرب الطرق لتحقيق هذا الاعتقاد:

إذا اجتمع الناس واكتظ بهم الديوان جلست أنت في الصدر، وجلس عن يمينك وعن يسارك رجال المعارف؛ ثم تشعل (شبقك) وتأمر كلا منهم أن يفعل فعلك؛ ثم تبتدئ فتذكر الله بصوت موقَّع على ضربات كفي وأنت تُميل رأسك من الشمال إلى اليمين تارة، ومن الخلف إلى الأمام تارة، وأنا والحافُّون من حولك نتابعك في كل كلمة وفي كل حركة. ثم

<<  <  ج:
ص:  >  >>