للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فلسفة سبنسر]

للأستاذ زكي نجيب محمود

تمهيد

تستطيع أن تصور لنفسك الحركة الفكرية في أوربا في القرن الماضي بند ولا يتذبذب من طرف إلى طرف، ونقفز من النقيض إلى النقيض، وليس في ذلك نبو أو شذوذ، إنما هي الطبيعة الإنسانية، أو إن شئت فقل هي طبائع الأشياء جميعا، إذا ما تطرف بها الموضع، لا تستطيع أن تتوسط في مقر معتدل مطمئن قبل أن تجذبها الدفعة إلى أقصى الطرف الآخر. وهكذا خضعت الفلسفة في القرن التاسع عشر لما تخضع له الأشياء جميعا، فاهتزت بها الأرجوحة بين طرفي النقيض. ففي أوائل القرن الماضي طوح بها هجل في بيداء الغيبيات والتجريد فلا تكاد تقرأ شيئا منه، حتى تضل في عالم وراء هذا العالم المحس الملموس، فليست الطبيعة عنده شيئا، وما وراء الطبيعة هو كل شيء. ولكن لم يكد ينسلخ من القرن نصفه الأول ويضرب الناس في أحشاء النصف الثاني حتى نفر العقل الإنساني من ذلك الفكر المجرد، وسئم تلك الميتافيزيقا المعقدة الموحشة، وأعياه هذا العبء الثقيل. فألقاه عن كاهله غير أسف، وقفز الفكر إلى النقيض الآخر، فنهضت فلسفة جديدة تنكر غيبيات هجل وأشياع مذهبه، وتنتقل بالإنسان إلى ضرب آخر من ضروب الفكر، فبعد أن كانت تتناول بالدرس حياة لا يربطنا وإياها إلا الخيال الشارد، أخذت تعالج مظاهر هذا العالم الواقع المحسوس. نعم انتقلت الفلسفة إلى المعرفة اليقينية الإيجابية. وكان حامل اللواء في هذه الحركة أوجست كنت في فرنسا، ثم دارون وسبنسر في إنجلترا.

وكان طبيعيا أن تنشا هذه الفلسفة الإيجابية في فرنسا، لأنها موطن اللا أدرية والشك، وهما طريق لا بد أن تؤدي يوما إلى الإيمان واليقين مهما امتد بها الزمان، ثم كتب لهذه الحركة الإيجابية أن تصل بتيار الفكر في إنجلترا الذي استمد روحه من الصناعة التي تدوي أرجاؤها في كل ربع من ربوعها، والتي تقوم على العلوم أولا واخرا، فليس عجيبا أن يصوب الفكر الإنجليزي ناظريه نحو الحقائق التي هي المعين الذي تستنبط منه العلوم بأسرها وان يضرب بكل ما وراء الطبيعة عرض المحيط. . وقد كان بيكون أول من انتحى بقومه ذلك النحو من التفكير، ثم تأثر خطوه من جاء بعدهفلاسفة الإنجليز: هوبز

<<  <  ج:
ص:  >  >>