للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في شبابه!

غاندي إذن هو اكمل من نعرف من الأحياء خلقاً وأنضجهم حساً. فإذا صدق أنه قليل الذكاء ضعيف العقل لأنه احتسبه في التلاميذ من المتأخرين، ولأنه كان من الشبان الشغالين، ولأنه كان من المحامين الحيارى التائهين، فإن أكبر ما كان يمكن أن نتصوره يصل إليه من مراتب الرقي البشري هو أن يكون شيخاً لطريقة من طرق التعبد والتدين اللذين يتطلبان في الصالح من أشكالهما هذا الصفاء في الحس، وهذا الكمال في الأخلاق، وقد مهدت الحياة لغاندي أن يكون هذا الشيخ، ولكنه أباه، وإن أنكر عليه شعبه هذا الإباء، وإن قدسه أهل ملته ورفعوه إلى ما يطاول مرتبة الأنبياء. ذلك بأن شعبه إذا لم يكن مفطوراً على تقديس المصلحين الأتقياء، فهو على الأقل مأخوذ بهذا التقديس متدرب عليه، فلو أن غاندي شاء أن يكون زعيماً من زعماء الدين لكان هذا الزعيم، ولما أنكر عليه الزعامة أحد، ولكنه عدل عن هذا إلى ناحية أخرى من نواحي الحياة تستلزم الكفاح العقلي والانتصار فيه، كما يسعدها التفوق الحسي والسلطان الخلقي. ولقد تم لغاندي النصر في هذه الناحية بشهادة بعض الكبار من رجال الإنجليز الذين قارعوه في الهند والذين وصفوه فقالوا: إنه رجل يمتاز في تكوينه على غيره من الرجال. . . وليست مغالبة الإنجليز الكبار بالأمر الهين، ولا الانتصار عليهم بالأمر المتاح لكل إنسان، والإنجليز حين يغالبهم الناس وحين يكافحون هم هؤلاء الغالبون لا يكافحونهم بالإحساس ولا بالأخلاق وإنما لهم في المكافحة سلاح آخر هو العقل، ويكاد العقل الإنجليزي يكون في أرقى مراتب العقل البشري، فإذا غلبهم غالب بسلاح العقل فلا يمكن أن يقال إنه قليل الذكاء أو إنه متقهقر العقل، ولقد غلبهم غاندي في مواقع كثيرة فلا بد من أن يكون أقوى منهم عقلاً وأشد ذكاء.

وإنه كذلك! وعلى هذا يتم له الانسجام النفسي القائم على أساس من النسب النفسية الرفيعة المتألفة من الحس الأنضج، والخلق الأكمل، والعقل الأوفر.

وهذا النوع من العقل هو الذي أردت أن ألفت إليه نظر القارئ في حديث اليوم. فقد رآني القارئ في أحاديث سابقة نافراً من الزي الأوربي الذي يتزيى به العقل الحديث، والذي ينزع إلى العلم المادي والحضارة المادية نزوعاً يكبت في الإنسان إحساسه ويخمد أخلاقه. وقد رآني القارئ في حديث الأسبوع الماضي أرجو للإنسانية أن ترقى فيتحقق لها العقل

<<  <  ج:
ص:  >  >>