للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يجب أن أحاول فهم شعر ابن الفارض من الناحية الصوفية قبل أن أتحدث عنه كشاعر

ولعل هذا كان أول حافز لي لدرس الصوفية على قدر اجتهادي.

ولا شك أن لابن الفارض مكانة خاصة في شعرنا العربي لأنه يكاد يكون الوحيد الذي عالج شعر الصوفية على النحو الذي نحاه شعراء الفرس والترك الصوفيون المبتدعون أمثال العطار وجلال الدين الرومي وسعدي حافظ. ولا يدانيه في هذا الباب غير ابن العربي، وإن يكن قد قصر عنه. فابن الفارض إذن فارس هذه الحلبة في لغتنا العربية وبطلها الفرد، وقد قال فيه نيكلسون: (إن أشعار ابن الفارض غاية في اللطف). ولا أذكر الآن من قال في وصف ديوانه إنه (معجزة في عالم الأدب)

والصوفية في شعر ابن الفارض مراتب من حيث الوضوح والغموض. ولعل (خمريته) تحسب وسطاً بين شعره الغنائي الغزلي وبين (التائية الكبرى) المعروفة بنظم السلوك

وهل أروي لك للدلالة على تشعب معاني هذه القصيدة الأخيرة ما ذكروا من أن أحدهم قصد ابن الفارض يستأذنه في شرحها، فسأله عن مقدار الشرح، فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضح الشاعر الصوفي وقال: (لو أردت لكتبت مجلدين تفسيراً لكل بيت فيها)

على أن المقريزي ذكر في ترجمة عمر بن الفارض أن محيي الدين ابن العربي بعث إليه في شرح التائية الكبرى فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) إشارة إلى كتاب ابن العربي (الفتوحات المكية) الذي جمع فيه شتات العلوم الصوفية في خمسمائة وستين باباً

وبين ابن العربي وابن الفارض بعض الشبه. كانا متعاصرين فكلاهما من رجال القرن السابع للهجرة، أي القرن الثالث عشر للمسيح، فقد توفي ابن الفارض سنة ٦٣٢هـ ـ (١٢٣٥م) وتوفي ابن العربي سنة ٦٣٨هـ ـ (١٢٤٠م). وكان ابن الفارض يصاب بدورة إغماء وغيبوبة فإذا أفاق منها أملى أشعاره؛ وكان ابن العربي يعتقد أن ما يكتبه يتحول إليه بطريق الوحي في حالة الغيبوبة والمجاهدة. وكلاهما من أئمة الصوفية، ولكن بينما هي غامضة بعض الغموض عند ابن الفارض لأنه يرمز إليها في صور شعرية، نجدها واضحة عند ابن العربي لأنه يبحثها نثراً. وكان ابن الفارض ينظم غزلاً يرمز به إلى الله في غير حبيب مجهول، ويكثر فيه من أنواع البديع بينما نجد ابن العربي ينظم شعره من

<<  <  ج:
ص:  >  >>