للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والكهوف إلى حيث يستطيعون أن يصارعوا الرجال في الحياة القائمة على وجه الأرض، والتي يتراشق الناس فيها بقنابل من الأباطيل والأكاذيب والحيل والمخادعات

إنهم عاجزون، والله مع العاجزين هذا العجز، وهو يعوضهم عنه قوة أخرى هي هذه الحاسة النادرة التي لا يجاهد في سبيل اكتسابها إلا أقل الناس، والتي تقتصد الطبيعة كل الاقتصاد في تهيئة عناصرها في النفوس، والتي يدرك بها هؤلاء الأطفال الكبار العاجزون من حقائق الوجود ما يغيب عن إدراك الكبار الرجال الذين ليسوا أطفالاً

ولم تكن البارونة الصغيرة تلمح هذا ولا كانت تعرفه، وإنما كانت تسحرها أغاني استراوس وألحانه، وكانت تؤديها كأطيب ما تصبو إليه نفسه هو فتشعر حينئذ بأن روحه من روحها، وأن روحها من روحه، فإذا ادلهمت عليه بأنوثتها رأته كالمسحور أو المعمول له عمل، فلما طال هذا وتكرر أدركت أنه غير رجل، ولكنها زعمت أن هذا الإدراك يجب أن يكون نهاية الصلة بينهما، فقطعت صلتها به وما فكرت في هذه الحالة الشاذة ولا في طريق علاجها، ولم تذكر أنها أنشدت له لحناً صاغه هو لتتبرج به هي في حفلة من حفلاتها، ولم يكن هذا اللحن إلا آهات كل آهة منها حكم تصدره على رجل بعينه من النظرة الأولى التي تلقيها عليه، فللمغرور المعجب بنفسه آهة فيها السخرية بغروره وتيهه، وللحالم المتغائب عن الوجود آهة مرسلة شاردة كأنما تصاحبه إلى الملكوت الأعلى، وللسمين القاعد على روحه آهة دسمة كأنما هي الرغيف المحشو برغيف آخر فيه خروف صغير، وللمهندم المؤدب الأنيق المتزجج آهة مرتعشة مخنوقة كأنها محرجة وجلة. . . ولم تذكر أن هذه الآهات تعددت في اللحن وتكاثرت بألوانها ودلائلها حتى لم يعد من المعقول أن يقال بعدها إن استراوس بعيد عن نفس المرأة وعقلها، جاهل طريقة تفكيرها، غافل عن أحكامها و (حيثيات) هذه الأحكام

وقد كان هذا اللحن وحده يكفي لكي تعلم البارونة الصغيرة أن استراوس الذي يتسمع إلى الصمت في الطبيعة كما يسمع أصواتها وينظم من هذا وتلك ألحانه المعجزة. . . بصير أيضاً بالنفوس عامة سواء منها نفوس النساء ونفوس الرجال، والبصير بالشيء لا يعجز عن نيله، ما دامت فيه القوة التي تمكنه من نيله وقد كان استراوس في أزمته الغرامية هذه شاباً فتياً له جسد الإنسان الرجل النزاع إلى جسد الأنثى. . . فما الذي منعه عنها؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>