للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فهذه قطعة تحليلية رائعة، وقد يلاحظ بعض القراء أن الصورة الشعرية في هذه القصيدة متنافرة الأجزاء، ولكن لا بأس فهذه القصيدة قد ضاعت أصولها مع الأسف، ولم يبقى منها غير هذه الأبيات وهي مما تخيره ابن رشيق. وقد تعبت في البحث عن أصل هذه القصيدة واستعنت بالأستاذ الشيخ محمد الخضري بك مهذب الأغاني فلم أصل إلى ما أريد، ولكن هذه البقية الباقية من تلك القصيدة تشهد بقدرة ابن الزيات على تحليل المعاني والأغراض

أما بعد فأنتم تعرفون أن توضيح الواضحات من المشكلات؛ فالعرب في أكثر أشعارهم قد تفوقوا في عرض المعاني والمناظر والمشاهد، ولهم في تصوير الطبائع والشمائل قدرة لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر أو حقود

وليس من الحتم أن يسلكوا جميعاً مسالك ابن الرومي أو أبي العلاء، فلكل شاعر مذهب في الأوصاف والتعابير، واختلافهم في مذاهبهم ومناحيهم ومراميهم هو الشاهد على ما يملكون من الأصالة والذاتية

وما كان ابن الرومي أكبر شاعر عرفه العرب، كما توهم احمد أمين، وقد صارحت الأستاذ العقاد بأني أرى الشريف الرضي أشعر من ابن الرومي فلم ينكر ذلك، واكتفي بأن يقول إن مزية ابن الرومي عنده هي التفوق في وصف

وهذا حق، فمزية ابن الرومي هي الحرص على درس أهواء الناس، وهي مزية شاركه فيها أبو العلاء

وإذا كان ابن الرومي قد أفلح في تصوير نحائز الخلق فهو مع ذلك لم يصل في شعره إلى الرنة الموسيقية التي كان يتفرد بها البحتري، ولم يصل في الصنعة إلى منزلة أبي تمام أو مسلم بن الوليد، ولم يحس الأنس بالحياة على نحو ما أحس ابن خفاجة أو ابن زيدون أو أبو نؤاس

ومن هنا نفهم أن للشعراء رسالات مختلفات، فعمر بن أبي ربيعه في بابه أشعر من ابن الرومي في بابه، وابن الرومي في بابه أشعر من ابن أبي ربيعه في بابه. والناقد الضيق الذهن هو الذي يضع للشعر غاية واحدة يحاكم غليها الشعراء

ومحاسن الأدب العربي ترجع إلى هذا التنوع الطريف، فليس عندنا شاعر يغني عن شاعر، وإنما هم اخوة مختلفون في المذاهب والأغراض، ومن اختلاف الألوان التي قدموها

<<  <  ج:
ص:  >  >>