للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شك مكان كبار الأبطال، كما كانت قضية كل منهما قضيته وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأيام.

ولد يوسف مازيني في جنوه في اليوم الثاني والعشرين شهر مايو سنة ١٨٠٥؛ وكان أبوه طبيباً يتمتع بقسط من الشهرة في تلك المدينة، وكان رجلاً رقيق الحاشية، عطوفاً حتى ليمد يد المساعدة أحياناً إلى المرضى دون أجر، وإن كان يعنف في بعض الأحيان على أسرته ويريها شيئاً من الغلظة والتحكم. وكانت أمه امرأة صالحة قانتة قوية الخلق ذكية الفؤاد، ولقد ورث الصبي هذه الخلال فما ورث من أمه فكان أكثر شبهاً بها منه بأبيه.

ونشأته هذه الأم قوياً، فلقد كانت تعني أشد العناية بإعداد أبنائها لملاقاة مصاعب الحياة يوم يجابهون الحياة؛ ودرج الصبي في عصر كان ينذر بجسيمات الأمور، عصر كانت البلاد فيه أشد ما تكون حاجة إلى أولى الفطنة والعزم من الرجال؛ وراح يستبقل الشباب في الوقت الذي كانت إيطاليا تستقبل فيه فترة من حياتها كانت كفترة الشباب من حياة الأفراد.

ولد مازيني بعد ثلاثة أعوام من تتويج ابن الثورة بونابرت إمبراطوراً على فرنسا؛ وكانت لا تزال انتصاراته في إيطاليا تشغل أذهان بنيها، تلك الانتصارات التي وضع بها أساس مجده وعظمته؛ وكانت نفوس الإيطاليين لا تزال تجيش بما هبط عليهم من وراء الألب مع الفاتحين من مبادئ تلك الثورة التي افتتحت فصلاً جديداً في تاريخ بني الإنسان؛ وأحس ذلك الشعب كما أحس غيره من الشعوب أنه تلقاء فجر عصر جديد يخالف ما سلف من العصور أشد المخالفة، وكانت ترف على جانبي ذلك الفجر أطياف جميلة بسَّامة ولدت كلها من النور كأنما تهبط من عالم غير هذا العالم الذي ألف الظلام؛ ولقد اشتد هيام الناس بتلك الأطياف الساحرة التي سموها الحرية والديمقراطية والمساواة، وراحوا يمنون أنفسهم بالصباح الجميل بعد ليلهم الحالك الطويل.

ولكن الصبي لم يكد يناهز التاسعة من عمره حتى كان الإمبراطور في قبضة أولئك الذين كان يزعجهم بالأمس مجرد ذكر اسمه؛ وأرسل (القورسيقي الصغير) كما بات يدعوه أعداؤه إلى جزيرة إلبا حيث يلاقي ذل الأسر؛ وشاعت في طول أوربا وعرضها أحاديث القومية ويقظة الشعوب وتحطيم الاستبداد وما إليها من العبارات التي ولدها الجيل، وتكشف الفجر عن طيوف جديدة ازداد بها طلاقة وسحراً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>