للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تصرف الإنسان مهما كان العقل مستقلاً - عن الغرائز - في إصداره، ومهما بدت الدوافع التي بعثت عليه في مظهر التجرد عن الغايات الشخصية لا يخلو من تأثره (بالميول). وهذه لاشك تضيِّق من دائرة العدل وتقيد عمومه. ولذا يميل البحث الواقعي للمسائل الخلقية إلى الإكتفاء بطلب العدل النسبي في الإنصاف بوصف العادل. وفي هذه النسبية يتفاضل العادلون

كذلك قرَّ في النفوس البشرية إما عن رغبة في حسم النزاع بين الأفراد في الأصل تحولت فيما بعد إلى عرف بينهم أو عن دافع فطري، أن (الكفاية) هي المقياس الصحيح للفصل في أفضلية فرد على آخر. وهي تختلف طبقاً لما تتطلبه ميادين النشاط المتنوعة في الحياة. فالكفاية الدينية غير الكفاية السياسية، وهاتان غير الكفاية العسكرية والاقتصادية مثلاً. وكانت في جملتها مقياساً صحيحاً لأنها تكشف عن عنصر القوة الذي يُهيئ للبقاء الصالح ويُعده للفوز في معترك الوجود، ولأنها أضمن لتوجيه نظام الجماعة للإنتاج الإيجابي والعمل المثمر في سبيل الحصول على رغد العيش، فضلاً عن أنها أدنى لتحقيق العدل في توزيع منافع الحياة بين الأفراد

ويندر لذلك عدم تقرير مبدأ الكفاية من الناحية النظرية في نظام الحكومات مهما اختلفت الأسس التي قامت عليها تلك الحكومات، ففي عصرنا الحديث نجد الدكتاتورية، برغم ما يبدو في طابعها من تحكم الصفات الفردية، تنادي بالكفاية كشرط أولى لإنتاج الأداة الحكومية. والديمقراطية طبعاً بحكم ما ترتكز عليه نظريّاً من أصل المساواة ورفع أي اعتبار آخر في التفضيل للتكليف بالأعمال العامة سوى الجدارة المحض، أشد إيماناً في مجال النظر بمبدأ الكفاية من أي نظام آخر من نظم الحكم الحاضرة

ولكن إذا قطعنا على الفكر متعته العقلية حين استعراضه الآراء المختلفة المتعلقة بنظم الحكم وحملناه على ملاحظة ما يجري فعلاً في التفضيل والاختيار؛ لاشك أنه سينغَّص، وسيمتد تنغيصه كلما كان أشد إيمانا (بالمثالية)

وإذا عجزت الملاحظة السطحية عن أن تقدم أمثلة كثيرة لما يحدث في ظل الدكتاتورية من مخالفة لهذا المبدأ - لدقة الرقابة على النشر - فسوف تلمس في الديمقراطية البرلمانية عنصراً آخر - وهو العصبية الحزبية - له السيادة المطلقة على مبدأ الكفاية في الاختيار

<<  <  ج:
ص:  >  >>