للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أمنيتين. . .

وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة؛ فما أهون ما بقى!. . إنه يعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث، يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة!. . .

وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار، وما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي!

يا لله! أهذه هي؟ لَشَدَ ما غيَّرَتها الأيام!

. . . كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة، كلها مَرَح ونشوة ودلال. . . يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟

أتُرى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار، كعهدها يوم كانت. . .؟ أين تلك المرآة؟. . . لقد علاها غبارُ السنين فما لها عينٌ تنظر ولا لسانٌ يصف!

هاتان عينان قد انطفأ بريقهما فما لهما هَمْس ولا نجوى!

وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أَرَجٌ ولا شذى!

وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صَدى! َ

وهذا الشَّعر - ما كان أجمله يوم كان! - قد خَطَّت عليه الليالي سطوراً بيضاء في صحيفة مسودة؛ إن فيها تاريخَ جهادٍ نبيل، أربعة عشر عاماً بلا وَني ولا كلال!

. . . لقد بذلت لولديها أغلى ما كانت تملك: بذلت المالَ والشباب، وبرّئت من شهوات النفس وأوهام المنى؛ ونسيتْ كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئاً واحداً، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله. . .: ولَديها العزيزين!. . . أما إحداهما فقد بلغتْ، وأما الثاني. . .

إنها لقريرة العين على ما جاهدت وبذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات!

. . . وفرغت الأم من صلاتها ودعائها؛ فنهضت متثاقلة إلى صوانها، ففتحته، فأخرجت منه كِسرة جافة، فبلَّتها تحت الحنفية وأخذت تلوكها بين فكيها؛ ثم صعدت إلى سطح الدار تتشمس!. . .

وأمسكت عوداً من الحطب تهش به على دجاجها وهي تنثر له الحبّ وفتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لسَلوة وأنساً، وإنها لتجد من هذه الطيور أُسرة تأنس إليها وتتسلى بمرآها؛ بضع دجاجات وديك؛ هذا كل ما بقى لها من أُنس العشير!

<<  <  ج:
ص:  >  >>