للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الواجبات وزيارة الأصدقاء.

كما أشهد أنني انتفعت به في قرض الشعر؛ ذلك أنني كنت مكثراً منه في مفتتح حياتي الأدبية، ثم صرفتني عنه الكتابة صرفاً تاماً حتى عسر الرجوع إليه، فما زلت أوحي بأن من الجناية تعطيل هذه الموهبة، وان الشعر أروع ألوان الأدب وأجلها خطراً ولا يسد مكانه غيره، حتى عدت إليه تدريجاً. . . والعود أحمد أن شاء الله. وليس التشاؤم إلا ضرباً من الأوهام تتحكم في ضعفاء الإرادة رقاق الإيمان، فيمكن التخلص منها بالإيحاء.

وهذا الدواء - أعنى الإيحاء - عرفه الناس قديماً لأنه دواء فطري، إذ لا يخرج في حقيقته عن المغالطة التي لجأ إليها الإنسان أحياناً ليدخل الروح على نفسه ويستل منها القلق والاضطراب.

ولنعرض الآن صورتين متشابهتين يغلب في الأولى التشاؤم فيلونها بلون قاتم كريه تقرأ فيه اللوعة والحيرة والتبلبل! ويتجلى في الثانية التفاؤل فيشيع فيها النضارة والبهجة والإيناس!

في الصورة الأولى نرى (ذا الرمة) الشاعر، مر في طريقه بغراب ينعب فوق بانة، فمثل له خياله المظلم أن الغراب نذير الاغتراب! وأن البانة عنوان البين! وقد نمهد له العذر في الغراب، ولكن كيف يسوغ التشاؤم بالبان؟ وبه تشبه قدود الحسان!

قال ذو الرمة:

رأيت غراباً ناعباً فوق بانةٍ ... من الغضب لم ينبت لها ورق نضر

فقلت غرابٌ غراب، وبانة ... لبين النوى، تلك العيافة والزجر

ومثله جحدر اللص في قوله:

ومما هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تَجاوبانِ

تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على غصنين من غرَبٍ وبان

فكان ألبان أن بانتّ سليمى ... وفي الغرَب اغتراب غير داني

وفي الصورة الثانية نرى الأمر على نقيض ذلك مع أن بواعث التشاؤم أشد واكثر، نرى (إباحية النمري) أنشأ سفراً، فسنحت له عقاب، وطالعته حمائم تنوح على شجرة طلح، وهدهد ساقط على غصن بان، تحته بقعة من دم مسفوح!

<<  <  ج:
ص:  >  >>