للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تأملات]

لا أدري يا فتاتي كنه نظراتك، ولا أخدع النفس بتصوراتي؛ إنما

بعينيك سواد يغمر ضوؤه فؤادي، ويذيب حره جناني. أسمع صوتك

المتهدج تحاولين أن تخلعي عليه المستحيل من ثباتك، وأحس خفقان

قلبي يعلوه هذا الشحم واللحم، فتخفى ضرباته على وجدانك.

تضربين يا فتاتي في حدود الثلاثين، ولما تكادي، وأغز أنا السير والأربعون من ورائي؛ فبيننا ما يسوغ لك مناداتي بيا أبي. وكم يحمل هذا النداء من عطف ومن مرثية! وكم تتجلى فيه الحقيقة المرة، وتشرق به النفس الظمأى إلى فيض الحب!. . . كم يردني إلى اليأس قدر ما أرتد إلى الأمل. . . لكن، يا فتاتي، قد آثرتك بحواسي، وهي تهتف بك وتهبب، فهل تستجيبين؟

وكيف تستجيب يا صديقي، وقد كان ما مضى كله عبثاً في عبث. . . لقد فتحت عيني عليه، وكانتا مغمضتين، فروعني ما رأيت: رأيت سداً هائلاً يقوم بيني وبينها، هو فرق ما بيني وبينها من سن. . . دروجي إلى الكهولة، وخطرها في مطارف الشباب هو الذي أترع قلبي غماً وأزال الغشاوة عن عيني. . .

رأيت الأوهام بعين الحقيقة تمضي فراراً لا تلوى على شيء. وكأنها خشيت أن تلقاني وجهاً لوجه، فأبصق من مر الحقيقة على وجهها. خجلت أوهامي فانحسرت عن بصيرتي، وخلفت أثرها في الكآبة التي لا تبرح تلازمني

ظلمتني يا فتاتي حين أرخيت لي في حبل الأمل فتعلقت به وشددت عليه، وتشبثت وكأني أتشبث بالحياة، وأية إيماءة حادة كانت تكفي لقطع الحبل لأنه من عمل الشذوذ ومجانبة الحقائق، والعمى عن الحدود. لكن حبلي لم ينقطع بشيء حاد. نظرة لا حياة فيها، لأنه لا اكتراث فيها، كفت لأن تقطع حبل آمالي بعد إذ كانت تحييها في سالف الأيام نظرة أخرى. وفتور أدل إلى التثاؤب وأوهى منه، طعنني في الصميم فكانت الصرخة التي فتحت عيني على حلمي المنكوب

بلى يا فتاتي! لقد نكبت كما لم ينكب غافل، وعاودني الرشد غير رشيد، وحزت الحسرة في فؤادي ولن تزال تحز إلى الأبد

<<  <  ج:
ص:  >  >>