للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نابليون الأديب]

للأستاذ صلاح الدين المنجد

حدثوا أن نابليون كان يرنو ذات يوم إلى البحر الساجي في (سنت هيلين)، يفكر في أمره: كيف صفق له النصر، وابتسمت له الدنيا، وكيف خانه الزمن فأودى به إلى هذه الجزيرة الغرقى وسط البحار. . . فابتسم وصاح: إن حياتي لرواية رائعة، ما كان ضرني لو كتبتها

على أن نابليون إن لم يسجل هذه الرواية بنفسه، فقد سجلها التاريخ، وحفظها الناس فأكبروا منه ذلك الجبروت الطاغي وتلك العزة الرفيعة. وكأن نابليون أراد أن يجمع إلى خلود البطولة والعظمة، خلود الأدب والفن، فود لو يكتب مؤلف

ولقد ذهب (سانت بوف) شيخ النقد في فرنسة، إلى أن نابليون كان أكبر أديب عرفه عصره. واحتج لذلك بروائع خطبه التي كانت تنعش الأمل الذاوي، وتحيي القلب اليائس.

ألم يغر جنوده العراة بكنوز إيطاليا ومحاسنها؟ ألم يكلم الهرم ويجعل القرون تنظر إلى أشبال فرنسة الفاتحين. . . ألم يسكب الحياة في نفوس فرسانه، هناك في سهول أوسترليتز. . .؟ فلقد كانت فصاحة لسانه وبلاغة بيانه تؤثران في كل قلب، وتنفذان إلى كل روح؛ والفصاحة والبلاغة بنتا الأدب البكر الجميل

ولقد ذهب (جاك بانفيل) الكاتب الفرنسي الكبير إلى ما ذهب إليه (سانت بوف) من قبل. ورجع ذلك إلى أن آل بونابرت كانوا ذوي بلاغة تخلب ومنطق يغري، وأن قلوبهم كانت ترف إلى الفنون والآداب. ولعل ذلك آت من أصلهم الفلورنسي القديم - وفلورنسة كانت مهد الآداب في حقبة من الزمن -، ومن أبيهم شارل بونابرت الشاعر الأديب. فلما تسنموا العروش كانوا من حماة الآداب ومشجعي الأدباء. فلقد شجع جوزيف بونابرت ولويس بونابرت ولوسيان بونابرت حملة الأقلام، وإن كانوا وجهوها وجهة خاصة وسخروها لتوطيد سلطانهم. على أن نابليون وحده كان ذا موهبة قصصية رائعة. فقد كانت أفكاره تتدفق ويومض كالبرق، مليء بالصور الأخاذة والتعابير الراقصة والألوان البارعة

ولقد كان ميل نابليون إلى الأدب يحبب إلى نفسه كل رقيق لطيف. فقد كانت تؤثر فيه الموسيقى الناعمة، وتهزه أشعار (أوسيان) الحالمة، وتعجبه مآسي (كورنيل) المترعة بالفخار المفعمة بالبطولة، ويطرب (لهوليز الجديدة)؛ ويقول عنها: (إن هذا الكتاب سيبقى

<<  <  ج:
ص:  >  >>