للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اشتعلت هذه الحروب بين المدن أو بين القبائل أو بين الأمم قبل أن يوضع القانون الدولي وتُنشأ عصبة الأمم، ومع ذلك تكشَّف عجاجها الأقتم عن خلال مشرقة من الفتوة والبطولة والنبل والإيثار والوفاء والتضحية كانت للأدب الإنساني الخالد مصدراً لا ينقطع رفده ولا يفتُر وحيه.

وكانت الحروب الإسلامية على الأخص في الفتوح أو الفتن تجري على سَنن مستقيم من الدين والخلق والأدب لا تزيغ عنه. فالقلوب التي تجيش بالغل لا تلبث أن تخشع للصلاة، والألسنة التي ترتجز بالحماسة لا تنسى أن تتناشد بالأدب. وما ظنك بجيش يفرض عليه دينه أن يؤدي الصلاة جماعة في المعركة؟ أتراه حريَّا أن يجاوز الحد إذا قاتل، أو يجانب الوفاء إذا عاهد؟ وما رأيك في جيشين يتهادنان ساعة ليحكم فارس بين رجلين اختلفا في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكان الحكم من جيش والمختلفان من جيش آخر؟

لقد رووا أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصارا إليه، فقال: لا أقول فيهما شيئاً، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطرى بن الفجاءة. فأتيا فوقفا حيال المعسكر، فدعواه فخرج يجر رمحه وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله، فقالا: نحب أن تخبرنا ثم تنصرف إلى ما تريد. فقال: من يقول:

وطوى القيادُ مع الطراد بطونَها ... طي التِّجار بحضرموت برودا

قالا: جرير. قال: هو أشعرهما!

فقل لي بربك: أين تلك الحرب التي كان يبرز فيها رجل لرجل فيتقاولان ويتصاولان على مسمع ومرأى من الجمعين المتقابلين، حتى إذا حميت الصدور واحمرت الحَدق حمل بعضهم على بعض فيُقتل نفر ويجرح نفر - من هذه الحرب الميكانيكية التي يقف فيها المليون حيال المليون فتغشاهم ظُلل من السماء ترسل الشهب والصواعق، وتكر عليهم قُلل من الحديد تقذف اللهب والقنابل! ثم يُرعد الجو والبر والبحر بآلات الموت والدمار ساعة من الليل أو النهار، فإذا بك لا ترى بعد ذلك عشرات من البلدان عمرتها الحضارة في دهر، ولا ألوفاً من الشبان نشأتهم المدنية في جيل!

لقد أتخذ الفرس يوم القادسية دبابات من الفيلة هولوا بها على المسلمين بعض الوقت، ولكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>