للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هزل مصر والشام]

من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي

تشهد في مصر ما تشهده في الممالك الكبرى من مظاهر الحياة ففيها الجدِّ على أتم حالاته، وفيها الهزلُ على غاية من الإتقان. ويُطربني جِدِّها وهزلها. وأنا في مصر مصريَّ، وما أنا بمصريَّ. فلئن تخطتني جنسيتها، فما حرمتني الفطرة مشاركة أهلها في عواطفهم وشعورهم وكثير من أطوارهم. كانت إقامتي في مصر منقطعة، فلم أر أن أعرض لسياستها إلا بقدر معلوم، وما عنيت العناية اللازمة بالوقوف على تراجم أهلها، وتوخيت أن أعرف مجملات عنهم، وذلك لتشعب أطراف موضوع لا يبَّرز فيه إلا من تمحض له وأنقطع إليه. وأحتاج على الأكثر أن أعرف من رجال مصر تراجم العلماء والأدباء، أما تراجم السياسيين وغيرهم فشرح يطول.

من الطبيعي أن يتآلف المتشاكلون في الفكر والثقافة، وفي القاهرة من ذلك ضروب وألوان، ولا يصعب كثيراً على النازل عليهم أن يصل إلى الطبقات المنوعة إذا كان إدلاؤه مهرة ما دام المصريون معروفون بهذا الظرف وهذا اللطف. وبعض سكان عاصمتها كأهل العواصم في الغالب تصدُّهم متاعب الحياة فيها عن الافتكار فيما يفكر فيه الناس في العادة، من مثل الوفاء وتعهد الصاحب، فيصْدُق عليهم أنهم من الطبقة التي لا يسرُّها من حضر ولا يسوئها من غاب، أو أن هذا من خلق عدم المبالاة المتأصل في بعض إفرادهم.

مصر من البلدان التي يعيش فيها الغريب خمسين سنة ولا يفتأ كل حين يقع فيها على شيء جديد، ويظفر بموضوع طريف ما كان له به عهد بالأمس. عرفت صديقي وحيد بك الأيوبي، وهو وأنا في مَيعَة الشباب، وكان من أبناء الأعيان المفكرين المثقفين. وتفارقنا زمناً ثم التقينا قبل اثنتي عشرة سنة، وإذا به رئيس جمعية جهرية سماها اسماً غريباً (البُعكوكة)، وبُعْكوكة الناس مجتمعهم على ما في القاموس. وكانت هذه البعكوكة تلتئم كل ليلة في قهوة متواضعة من منعطفات شارع إبراهيم باشا، ثم انتقلت إلى قهوة السلام (كافيه دي لابيه) في نفس الشارع. ويبدأ اجتماع أعضائها من بعد العشاء، وينصرفون بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين أحياناً. وتتألف من محامين وأطباء ونواب وموظفين ورؤساء دواوين ومؤلفين وصحافيين وأعيان أصحاب أطيان موسرين وغيرهم، ولا يقل

<<  <  ج:
ص:  >  >>