للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رجعت إلى الشام وكتبت كتابين مطولين في فترة قصيرة إلى الرئيس، أذكر له بعض ما فتح الله عليَّ من أدوية لدائه. فلما قرأهما الرئيس على الأعضاء تجددَّت لهم عناية بمداواته، وبقى القوم يهتمون لذلك سنة لا تخلو ليلة من الإلماع إلى سير مرض الرئيس وإلى ما ظهر من الأدوية وإلى ما وفقوا لمعرفته من طلاسم وادعية إلى غير ذلك مما ينجع في شفائه. والرئيس يشكو وهم يخففون عنه آلامه ويسلّونه. ولما عدت في الشتاء التالي إلى القاهرة سألت الرئيس عن حاله فضحك وقال: وأنت أيضاً صَدَّقت ما زعمته لكم؟ إني أدعيت هذه الدعوى لأُضحككم، وقد حصل المقصود من هذه الفِريْة فضحكتم بها حولاً كاملاً، وأنا بحمد الله ليس لي ما أشكو منه مما ذكرته لكم، فعجبت وأكبرت صفات الرجل وحبه لمرؤوسيه، كما كنت أعجب بكرمه على كل بائس مُمْلِق، وقلت له: إن انتسابي إلى بعكوكته أحب إلى نفسي من كل لَقب لُقِّبْت به، ومن كل مجمع علمي شرفني بعضويته، فمع جماعته السَّلْوَى والسرور، ومع أولئك كَدَّ الذهن وكرب الجد.

يكتب رئيس البعكوكة الحين بعد الآخر في جريدة الأهرام قطعاً لطيفة في اللغة والأدب والسياسة. وجاء البرق ذات يوم ينقل كلام أحد رجال السياسة ويقول: إن الإنجليز يرابطون بجيشهم في مصر لحماية الاستقلال؛ ومن الغد كتب الرئيس بضعة أسطر في الأهرام يُكَبِرُ هذه العناية بأمر مصر ويقول: إن عندنا الآن إذاً احتلال واستقلال، فماذا نسميهما؟ نسميهما (الاحتقلال) أخذ من الأول حرفين ومن الثاني ثلاثة. وسأله مكاتب التيمس في القاهرة: وماذا نسمي ذلك بالإفرنجية؟ فقال على البديهة: مأخوذة من الاحتلال والاستقلال. وكثر السائلون للرئيس عن هذا الاسم الجديد وعما إذا كان له أصل في اللغة وهنئوه على توفيقه للعثور على هذه اللفظة الجميلة. وعبثاً حاول أن يقنعهم أنها لفظة وضعها وضعاً؛ وما كان بعضهم يرضيهم إلا أن يكون وجدها في معجمات اللغة.

ورئيسنا يعطف على كل من يعدُّه الناس ثقيل الظلِّ، فإذا سمع بمن هذه حاله أحتضنه وبره. وقد يصحب أحد الصعاليك المعدمين إلى مطعم الكونتيننتال يغدِّيه أو يعشِّيه. وقد أعترض عليه مرة نائب رئيس البعكوكة إدوارد بك القصيري قائلاً له: إن فلاناً في حاجة إلى (بنطلون) وأنت تنفق عليه في الوجبة الواحدة ما يزيد على الخمسين أو الستين قرشاً صحيحاً. أعطه ثلاثين قرشاً يشتر بها بنطلوناً بعشرين والعشرة ينفقها على عياله. فأجابه

<<  <  ج:
ص:  >  >>