للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شكايات هي أعذب وأخطر من صهباء الرُّضاب

كنت أعرف أن الغِيبة من الكبائر، وأن السامع شريك القائل في الإثم، ولكني نسيت الأدب مع الشرع، لأن تلك الكبيرة كانت تساق إلى أذني في لغة فرنسية ملحونة، وأنا أعبد اللحن في اللغة الفرنسية إذا صدر عن الألمانيات الملاح، وهل في الدنيا لغة أحلى وأعذب من لغة باريس حين تمضغها ظبية من برلين؟

واتفق في تلك الأيام أني كنت مشغول الفكر والقلب بدرس طوائف من الشعراء العشَّاق منهم ألفريد دي ميسَّيه، وقد كُتِب في تاريخ هواه عشراتٌ من المؤلفات الجياد، فحدثتني النفس بأن أحجّ إلى قبر ميسَّيه مع تلك الألمانية الحسناء، لأذوق حلاوة النجوى في رحاب ذلك (الشهيد)

وكذلك مضينا إلى مقبرة بير لاشيز في صباح يومٍ مَطير لا يَدفع غيومه الثقال غير ما في قلوبنا من صفاء

وأسرع البواب فقدَّم إلينا خريطة المقبرة بثلاثة فرنكات، ولم يكن بدٌّ من الاهتداء بالخريطة، لأن تلك المقبرة فيها ألوف من المقابر، ولن نصل إلى قبر ميسيه بغير دليل

وماذا تقول الخريطة؟

إنها لا تعيِّن غير أسماء العلماء والشعراء والكتاب والمجاهدين، وهي أسماء معدودات، فأين أسماء المجهولين والمنسيين بتلك المقبرة الفيحاء؟

أولئك أقوامٌ دفنوا همومهم في صدورهم فلم يتحدث عنهم شاعرٌ ولا كاتبٌ ولا خطيب

أولئك أقوام كانوا أحجاراً في بناء الوطنية الفرنسية، ولو كانوا من أصغر الطبقات، فكيف نسيهم الناس فلم يُحفظ لهم في الخريطة مكان؟

تلك حظوظ من يعملون وهم صامتون، وقد يكون فيهم من أدى لوطنه خدمة منسية، وقد يكون فيهم من حفظ العهد لإخوانه الناسين، وقد يكون فيهم من شرب من رحيق الوجود أكثر مما شرب كبار الشعراء

وما هي إلا لحظات حتى التفتتْ رفيقتي فرأت عينيّ مغرورقتين بالدمع، ورأتني لا أطيق الجواب من فرط الحزن والذهول

وصَوّبت الرفيقة بصرها إلى ما صوّبتُ إليه بصري فرأتني أحدِّق في لوحة رُقِمت هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>