للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إذا كان حقاً ما تقول من أن أبناء جميع المستعمرات يعاملون في فرنسا على قدم المساواة مع الفرنسيين. . . فهل نطلب من أبناء المستعمرات جميعاً أن يرحلوا عن أوطانهم ويسكنوا فرنسا ليحظوا بالحرية والكرامة والعلم والوقوف على قدم المساواة مع الفرنسيين؟ كلا! لن يبيع عرب الجزائر وتونس وطنهم بوطن آخر ولو كان فرنسا إلا إذا باع الفرنسيون وطنهم للألمان لأنهم احتلوه بالقوة والطغيان، وإلا إذا ذهبوا أوزاعاً وأخلاطاً ليسكنوا ألمانيا ويندمجوا فيها وينزلوا عن جنسيتهم ليحظوا بشرف المساواة مع السادة. . .

ويح عقول مثقفينا! بل ويلها! إنها في ظلال وخديعة ما يغنى لها أسف ذوى القلوب البسيطة التي تصدر عن سلامة الفطرة وبراءة الفكرة. . .

وبعد هذا، أنحن الذين (لم يقوموا بهذه الحركة الشامتة وهم متبينون ما يجري في نفوسهم، وأن بعضهم لم يكتب ما كتب مخلصاً لفكرة أو مؤمناً بحقيقة)؟

أنا ما (شهدت متاحف فرنسا ولا تلك اللوحات التي تصور بألوانها وظلالها جمال النفس ولا حلاوة الروح)، ولم أحبب كما تريدني يا نجيب هذه الروح الممتازة. . . إذ لا يمكن أن أحب جلادي قومي ومعطلي روحهم وقواهم وذكائهم الممتاز الذي حفظ شعلة الثقافة والعلم ونماها حتى أسلمها لهذه الأيدي العاقة الجاهلة بسير التاريخ وتقلباته بالدولات والأمم. . . فلا أفتن بالأصباغ والألوان الزاهية وأنسى الحقائق القائمة المعتمة. . .

ولم أشهد كذلك تلك اللوحات التي في (قاعة الوقائع) في فرساي، إذ ينبغي كأن نكون في شغل عنها برؤية الوقائع السود الدائمة والمعارك الظاهرة والخفية التي تشنها فرنسا على قومك في الشرق والغرب: في سوريا وشمال أفريقية. . .

لو سقطت فرنسا تحت أقدام قومي لخشعت في حضرتها (فما أنبل أن تخشع في حضرة عدوك يوم صريعاً تحت قدميك!) كما قلت يا نجيب. . . ولكن فرنسا حطمت وهي لا تزال جاثمة على صدر قومي. . . وقد فرحت لصرعها أملاً في أن يزحزحها قومي عن صدورهم ثم ينهضوا ليؤدوا لها تحية الخشوع التي تراها الأخلاق من النبل

أما الآن وفرنسا لا تزال سجانة في ديار العرب، وإن كانت سجينة في ديارها فكيف تطلب مني أن أبكي عليها وهي لا تزال ثقيلة الوطأة ثقل جثث الأموات. . .؟!

<<  <  ج:
ص:  >  >>