للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

واحد من الجماهير التي تحس بها، ولأن شعور الجماهير كان يتبلور في حسه فينطق به. أما شوقي فكان يسجلها تمشياً مع اتجاه الجماهير، وتوخياً لمهاب الرياح، وتيقظاً لما تتطلبه الأحاسيس العامة.

على وجود الفرق بينهما في هذا، وأفضلية حافظ ولا ريب بالقياس إلى بواعث القول في نفسيهما، وإن فضله شوقي في الأداء واتساع الآفاق في هذا المجال - على وجود هذا الفرق فان كليهما كان يمثل شاعر القبيلة على وضع من الأوضاع.

وشاعر القبيلة الهاتف بأحاسيسها العامة، المسجل لأحداثها الهامة، الذي تفزع إليه في الملمات ليقول، وتتطلع إلى شفتيه لتتلقف منهما ما تحس به ولا تطيق التعبير عنه.

هذا الشاعر على عظم فضله، وجلال (منفعته) لأمته ليس هو الشاعر المثالي الذي تتطلع إليه الآداب الرفيعة ويحفل به تاريخ الفنون.

وإنما هو حلقة بين الشاعر البدائي وشاعر الشخصية المستقلة هذا الذي يرى الكون من خلال نفسه الخاصة ويعرضه علينا فنتلقاه كأنه نموذج منفرد لكون جديد، ونعرضه في متحف الفنون مع زملائه؛ فإذا لدينا أكوان جديدة بعداد الفنانين الذين نستعرضهم، لا صوراً متشابهة من أحاسيس الجمهور في فترة من الفترات.

وشاعر الشخصية هذا قد يعرض لأحداث أمة أو لا يعرض، وقد يتلاقى إحساسه مرة مع إحساس الجماهير أو لا يتلاقى أبداً، ولكنه يبقى مع هذا شاعراً أصيلاً للحياة، في شاعريته غرض مقصود، وللفن في ديوانه نموذج من النماذج النفسية المرموقة. ويبقى في أسوأ حالاته أرفع وأخلد من شاعر القبيلة الذي تلتقي في نفسه وتتبلور أحاسيس الجمهور.

وقد لا ينتفع جيل هذا الشاعر به كما ينتفع بشاعر القبيلة ولكن يجب أن نفهم أن نظرية المنفعة ليست هي المحكمة في أقدار الفنون، وأن الشاعر ليس مطالباً أن (ينفع) جيلاً بذاته من الناس، وشاعر الشخصية لابد نافع ونافع في دائرة أسمى وأوسع وأبعد أثراً من شاعر القبيلة، بما يجلوه من نماذج رفيعة قد لا تطرق أي حدث واضح من الأحداث العامة.

ويجب أن لا ننسى أن شاعراً واحداً من شعراء الشخصية يعلم أمته حب الجمال في أنماطه العالية، إنما يعلمها من معاني الحرية والثورة على الاستعباد أضعاف ما يعلمها شاعر من شعراء القبيلة يناديها كل يوم بتحطيم القيود ورفض الاستعباد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>