للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والعصور. . .

أتذكر أيها الصديق كتاب طبقات الأرض الذي شقينا بدراسته أيام الحداثة والذي كنا نعتبره إذ ذاك أنجع دواء للأرق! أنت تذكره ولا شك، ولكنك لن تصدق أنني مشوق إلى قراءته من جديد! أنه الكتاب الذي فتح عيني على سر العظمة في هذا الملك العظيم. . . ألم تقرأ فيه أن البحر كان يبسط سلطانه القاهر إلى الصعيد؟ فمن الذي رده إلى حيث هو اليوم، ومن الذي سيرده إلى أبعد من هذا غداً؟

قل لهؤلاء الذين ظنوا به الهرم: لقد جهلتم طبيعته واستخفكم هدوءه. . . إنه يحتمل ويحتمل، ولكنه لا يصبر طويلاً على الأذى. إنه يأخذ من الجبل الأشم ويبسط جناحيه على الصحراء الجافية ويطأ البحر بقدميه الثابتتين في أناة وبطؤ وعزم!

قد يستعدي البحر قبضات من رمال الصحراء عليه تستدرجها أمواجه ثم تقذفها عليه، وقد يرسل البحر رياحه تدفع الكثبان للإغارة عليه، ولكنه يهضمها فيما يهضم ويحيلها مادة من مواده وكتيبة من كتائبه، وما أندر ما عسر هضمه على معدته القوية الجبارة، إنه يلفظه إلى حيث لا يمكن أن يعود

تعال أيها الصديق أنظر إلى عرائس حقوله بعيونهن العسلية التي تفيض بالوداعة والبشر والإيناس. إنهن يتحدثن في همس، ويتحركن في لين وخفة، يزيد شغفك بهن كلما سترن محاسبتهن تحت الشفوف ذوات الألوان الثابتة، وإذا رقصن أعدن عليك مشاهد الصلاة القديمة التي كان يمتزج فيها الفن بالعبادة

فتننا البحر كما فتن غيرنا لأن الإنسان يكلف بما ليس في طبيعته. إننا ذرات صغيرة من هذا النيل، وأنا في هذه الأيام السود أشعر بقوة هذا الامتزاج حتى لكان هذا النيل يسعى على قدمين

إنه يتأهب لوقعة حاسمة سينتصر فيها كما أنتصر دائماً، ولن يبذل في سبيل ذلك إلا ذرات صغيرة، وأن تكن عزيزة عليه، وما أسعدني يوم يضمني إليها حين يدعو إلى التضحية والفداء

(طبق الأصل)

(حمدي)

<<  <  ج:
ص:  >  >>