للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة، ولكن أمه لم تحتمل هذر الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها

واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف وكان ينوى قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوباً على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسي وعفا أثره تقدم إلى والدته يحادثها في أعز أماني قلبه، ولكنه وجد منها ازوراراً وإباء، وكبر عليها جداً أن تستأثر بابنتها غداً التي أهانتها بالأمس، فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به ولا كفء له وذهبت كل محاولته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقاً لتلك الدعابة المرة، أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب أبنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معاً؟. . . ومهما يكن من الأمر فقد أسقط في يده وتوزع قلبه ألماً وحزناً بين أمه وحبيبته، وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب، موزعة بين الألم والضجر واليأس والخنق. ثم أعلن ما كان سراً وافتضح ما كان خافياً، فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحي جميعا. ً وأنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست بالمرض فجأة فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها في اليوم الرابع، ووقع عليه الخبر بعنف وشدة؛ ففزع وهلع وتقطع قلبه ألماً. كان يحب أمه حباً كبيراً؛ وقد هاج الفراق الأبدي الحب المتغلغل فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا في عينيه. . .

ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه وقد كانت تعدها عثرة في سبيل سعادتها؛ فما من شك في أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه. وألمه هذا الخاطر ألماً عميقاً وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون به فانطوى على الحزن والغضب ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلاً منيعاً بينه وبين الفتاة. . .

فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها وانغمس في الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد وظن أنه يتناسى الماضي بهمومه وآلامه أو أنه نساه بالفعل

ازدحمت هذه الذكريات برأسه في طريق العودة إلى البيت ولكنها لم تصحب بعواطف في مثل مرارتها وحزنها إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة عن عواطفها واحساساتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>