للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(السجن للجدعان) فقد لاذ كل منهم بسبيله، منهم من سجن، ومنهم من هجر الحسينية، ومنهم من راض نفسه على العمل كما يعمل الناس جميعاً سعياً وراء الرزق. فألفى المعلم عالمه مهجوراً كئيباً، ومجده ذكرى أليمة لا يترحم عليها إنسان، حتى زوجه ضاقت بفقرة وتسولهٍ فهجرته وعادت إلى بنات فنها في شارع محمد علي. وطحنت الآلام تلك النفس الجبارة العاتية. وترنح صاحبها تحت أثقال الهموم لا يستطيع أن يجأر بصوت الشكوى خشية عيون البوليس المحدقة به من كل جانب، وظل على حزنه وألمه حتى تلقى إنذار التشرد الذي يخيره بين العمل أو السجن

طافت برأسه - في ساعة بؤسه تلك - صور من أيام مجده تراءت راقصة أمام ناظريه خلل أغشية الحزن والألم. وكان صاحبه السائق في تلك الأثناء يراقبه بطرف خفي وأصابعه تبعث بالإنذار الذي أحدث كل ذاك الغضب. وكان يدير أمراً هاماً في عقله. فلما قلبه على أوجهه المحتملة التفت إلى المعلم وسأله:

- ماذا تقول يا معلم لو عرض عليك عمل يدفع عنك غائلة البوليس؟. . .

وحدجه المعلم بنظرة غربية دون أن يفوه بكلمة. وتشجع السائق يصمته فاستدرك قائلا:

- سبق أن علمتك قيادة السيارة. وهي صنعة في اليد تعمر بيوتاً، وما من شك في أنك خبير بالطرق والمواصلات وأستطيع أن أدلك على عمل في (الجراح) الذي أعمل فيه على شرط أن تتنازل وترضى. . . فما رأيك يا معلم؟

ولم يسارع المعلم إلى الفرح كما ينبغي لأي رجل في مكانه، لأن العمل كان التجربة الوحيدة التي لم يعرفها، وهو لم يكن شيئاً عظيماً قط في نظر الفتوات المحترفين، فتوجس منه خيفة، ولكنه لم يكن في حالة يستطيع معها رفض ما يعرض عليه مادام العمل هو المنقذ الوحيد له من السجن. فقال لصاحبه بلهجة لم تخل من الامتعاض: وهل من الممكن أن ألحق بهذا العمل قبل مضى العشرين يوماً؟

- يغير شك ولا ينقصك إلا شيء واحد. فتساءل المعلم قائلاً:

- ما هو؟. . .

- بذلة يا معلم، لأنه لا يمكن أن تكون (شوفيراً) بغير بذلة. فاشتر بذله أو أجرها أو أستعرها كيفما أنفق. ولكن لابد من بذلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>