للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المرسل

إنما يتميز الشعر من سائر ضروب الكلام بخصائص ثلاث: موسيقية شديدة الحساسية، وصعوبة عسيرة التذليل، وقدرة على تثبيت الفكرة بلفظها في الذاكرة. فالشعر المرسل يستطيع أن يدرك شيئاً من الموسيقى إذا زاوج الشاعر بين أواخر الأبيات، واستفاد من الحرية التي أعطيها، فتخير الألفاظ، وعدل الأقسام، وألف الألوان، وحرك المعاني، ونوع الصور، وأخشى بعد ذلك كله ألا يرتفع عن النثر البليغ المحكم. ولكن الصعوبة التي تلقى الشاعر في كل بيت عند القافية فيسلط عليها ذهنه وفنه وذوقه ولغته حتى يفجأ أذنك - وهي تنتظر في غير صبر - بتلك الحيلة الفنية، واللفتة الذهنية، والكلمة الصادقة الموسيقية، لا تجدها في غير الشعر المقفى

كذلك يعجز الشعر المرسل عن أن يهيئ للذاكرة في التمثيل - على الأخص - ما تهيئه لها القافية من (نقط الارتكاز) وعلائم الطريق حتى لا تجور ولا تضل.

على أن تسهيل الشعر بإلغاء القافية يخمد الذهن ويجدب القريحة، لان الصعوبة ترهف الفكر فيدق احساسه، وتوقظ العقل فيزيد انتاجه، وتبعث الفن فيحيا بين الهام الشاعر وإعجاب القارئ

والواقع أن القافية لم يشكها شاعر مطبوع ولا ناظم مطلع، فان الطبيعة الغنائية للشعر العربي من جهة، ووفرة الثروة اللفظية للشاعر من جهة أخرى، تجعلان القافية من أخص لوازم الشعر واسهل ضروبه. ولك في الأراجيز القديمة، والموشحات الحديثة، وسائر ما استحدث المولدون من الأنواع القائمة على موسيقى القافية دليل ناهض على ما نقول.

فإذا وقع شاعر اليوم في رهق من بناء القافية لقلة محصوله من اللغة، أو لمعالجته التمثيل والقصص الطويل، كان له في تنويعها مندوحة عن هذا النوع الذي تذبذب بين النظم والنثر، فوقف من الأذن موقف الغصة من الحلق، بذلك استطاع البستاني أن يترجم الإلياذة، وتسنى لشوقي أن يبدع في مآسيه.

هذه كلمة موجهة نفتتح بها المعركة الأخيرة بين الشعر المقفى والشعر المرسل، فان رواية (خسرو وشيرين) مع ملاحظة التحفظ في عرضها، جاءت بعد المقالات التي نشرت بالرسالة أشبه برواية (هرناني) حين كتبها (هوجو) على المذهب (الرومانتيكي) بعد أن دعا

<<  <  ج:
ص:  >  >>