للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شقية بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من إذن موسيقية وميل لسماع الغناء والافتنان به.

كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير (سقّا عَوّض) وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا. بل ربما لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحياناً، ومالحة أحياناً، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها، وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.

وكثيراً ما طال النزاع بين السقا وربة البيت: فهو يقول ان القرب صارت سبعاً وهي تأبى إلا ستاً، ويطول الحوار والجدل والقسم بالإيمان، وأحياناً يتفادى السقا هذا الجدل بطريقة من طريقتين. إحداهما أن يوزع خرزاً من نوع خاص على صاحبة البيت عشراً عشراً، أو عشرين عشرين وكلما أتى بقربة أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه. وثانيتهما انه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطاً - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحياناً يتهم السقا ربة البيت بأنها مسحت خطاً، وأحياناً تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك ابى السقا في معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة

وفي يوم من الأيام حول سنة ١٩٠٠ رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولاً وعرضاً، ومُدّت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقا، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وما أنس لا أنس خادماً أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعَجبَتْ أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة.

وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب الألف بالعجب، ولكن ظللنا نستضئ بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوماً

<<  <  ج:
ص:  >  >>