للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من عورات النفس، لا يسهل على الإنسان أن يكشفها لغيره وهو يقظ منتبه إلا إذا كان فاجراً، فإذا كان فاجراً لم يكن مغنياً، لأن الغناء فن يستلزم في النفس حناناً ورقة ورحمة وشوقاً وأملاً ولهفة ورجاء وحباً وعطفاً ورضا وتضحية، وكل هذه عواطف بعيدة عن نفوس الفجار. . .

فإذا انقلب دماغه واستخفته الخمر وغاب عن رشده وهان عليه أن يفضح نفسه وأن يكشفها عارية للناس، لم يرضه أن يكشفها لكل الناس، وإنما يرضيه أن يتعرى أمام الذي يعجبه هذا العري، والذي يرحم هذا العري، والذي يستجيب لهذا العري، والذي يكشف بالسماع من نفسه مثلما المغني من نفسه بالغناء. . .

وهذا هو الإنسان الحلو الذي كان المغني القديم يطلبه قريباً منه ليشاهده ويغني له، ولينسى به أنه قد تعرى أمام جمهور من الناس

والحلاوة في الإنسان تختلف، ولكل مغن ذوق هو ناشئ عن تكوين نفسه، فكما كانت حلاوة روحه كانت حلاوة مشهده. . .

والناس أجسام هي صور لأرواح محبيهم وعشاقهم. . .

ولا ريب أن هذه حال تشبه أن تكون موقعة بين المغني ومشهده الحلو، والمواقع لابد أن يحضرها شهود، والشهود هؤلاء ليست مهمتهم الحكم على المغني في آخر الليل بأنه انتصر أو بأنه فشل، وإنما مهمتهم أن يرقبوه وأن يرقبوا سامعه، وأن يتابعوهما بالإيحاء والتنبيه والتحريض و (تسجيل النقط) والتحميس والتطيب وغير ذلك من وسائل تفتيح النفس وإرهاف الحس وإشعال الروح. . . وهؤلاء الشهود هم أولئك المستمعون الذين يجرهم المغني وراءه من حفلة إلى حفلة، والذين يجرون وراءه من فرح إلى فرح. وهو يحبهم وهم يحبونه. أما هو فيحبهم لأنه يشعر بأنهم يتلقون خفقات نفسه ووثباتها فلا تضيع منها خفقة في الريح، ولا تذهب منها وثبة إلى العدم، فهم مسكن روحه ومأوى نفسه ونصراؤه المستجيبون له.

وأما هم فيحبونه لأنهم يرونه كأنما هو قائد لهم، إذا أن فكما كانوا يريدون أن يئنوا هم لو أن نفوسهم تفتحت تفتح نفسه، وإذا حن فكما كانوا يريدون أن يحنوا هم لو أن نفوسهم فاضت كما تفيض نفسه، وإذا هم فكما كانوا يريدون أن يهموا هم لو أن نفوسهم فزعت

<<  <  ج:
ص:  >  >>