للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

انتقال مزعج

تمضى في قراءة (الأيام) وأنت لاهٍ عابث، لأن الكاتب لاهٍ عابث، ثم تصطدم فجأةً بانتقال مزعج، هو الصورة المروعة لإحساس أبويه بقسوة الثُّكل في يوم عيد، وما تكاد تفرغ من الجزع لهذه الصورة حتى يفاجئك بصورة أعنف وأفظع، هي صورة أخيه الذي مات وهو مطعون.

فلو قلتَ إن الصفحات التي صوَّر بها طه حسين أحزانه وأحزان أهله لهاتين الفاجعتين تُعَدّ من أروع ما صوّرت به المآسي الإنسانية لكنت قريباً من الصواب.

وطه حسين في هذه الصفحات كاتبٌ قدير، لأنه يفجِّر الدمع في جوامد الشئون، ولقد هممت بأن أرسل إليه برقية عزاء، مع أن الأعوام التي مضت على هاتين الفاجعتين كادت تشارف الأربعين.

أما حديثه مع ابنته وهو يقص أخبار (أوديب) بعد أن فقأ عينيه، فهو حديثٌ يذيب لفائف القلوب، ومن واجب الدكتور طه نحو القَدَر المكتوب أن يذكر أن الله ترفق به كل الترفق، فجعله رجلاً من أكابر الرجال.

جلسنا مرة نسمُر بداره يوم كان يقيم بمصر الجديدة فأطلعته على خبر لطيف في جريدة (لابورس)، خبر يبشر بأن أحد الأطباء قد اهتدى إلى علاج يرتدّ به العميان مبصرين، فهتفت زوجته: (إن صحَّ ذلك فسأبيع آخر قميص لأردَّ إليك بصرك، يا طه!)

وأغلب الظن أن الدهر سيبخل على الدكتور طه بالعودة المنشودة لنور عينيه، وسيبخل على مدام طه بلذة البيع المنشود لآخر قميص، ولكن العمى لن يمنع الدكتور طه من التبريز في كثير من الميادين.

ولعل لله حكمة فيما وقع، فالدكتور طه هو حجتنا على أن مصر أخصب البلاد، وإلا فأين العميان الذين استطاعوا ما استطاع في هذا الجيل؟ ولولا خوف الإسراف لقلت إنه أشجع من أبي العلاء، لأنه رفض أن يعيش رهين المحبَسين، ولأنه وهو أعمى قد مهَّد السبيل لمئات أو ألوف من المبصرين. وأستغفر الله من الإشارة إلى عَمَى الدكتور طه، فتلك أول إشارة تصدر عن قلمي، ولم تصدُر أبداً عن لساني، وإنما استوجبها البحث، والبحث قد يستبيح ما لا يباح.

<<  <  ج:
ص:  >  >>