للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أو يقيم عليه حقاً، فكيف يمكنه إذا لمحه وتبينه أن يعود إلى الصبر عنه والصبر مر؟! إنه لا يعود إلى الصبر، وإنه ليتهافت على معشوقه الذي كان غائباً عنه ثم تجلى. . . سبحانه من معشوق وتعالى!

هي دوخة يدوخها المجذوب قبل أن يصل، فلا يلومنه إنسان إذا هتف كذلك الذي هتف وهو عريان في الحمام، وقال: (وجدتها)! وانطلق من الحمام وهو عريان ليعلن أمام مخلوقات الحق أنه قد وجدها، وهي أنه إذا غطس جسم في الماء انزاح من الماء ما يساوي حجمه حجم ذلك الجسم الغاطس. . .

وفي أثناء هذه الدوخة تظهر على الأديب المجذوب المسحوب من لسانه إمارات لا تظهر إلا على الدائخين فعلاً وحقاً فهو إذا انفرد بنفسه أو إذ لم ينفرد بنفسه فهو لا يفتأ يفكر مع نفسه ويتناقش مع نفسه، ويتحدث مع نفسه بالإسرار أحياناً، وبالجهر أحياناً، وإن عقله ليهديه في بعض الأحيان إلى ما يحسبه حقاً ثم يهديه بعد ذلك إلى ما يهدم هذا الذي حسبه حقاً فإذا به يضحك فجأة وهو منفرد أو بين الناس ساخراً من نفسه لأنه حسب باطلاً من الأباطيل حقاً في زمن من الأزمان، وقد لا تقف به الحال عند الضحك. بل إنه قد يلطم نفسه لطمة، وقد لا يقف به الحال عند هذا بل إنه قد يضرب رأسه في جدار إذا كان قد رتب على هذا الباطل الزور قولاً فأعلنه أو فعلاً فأداه.

إنه يعامل نفسه كما يعامل غيره. بل إنه ليشتد مع نفسه ويصارحها بعيوبها أكثر مما يشتد مع الناس وأكثر مما يصارحهم بعيوبهم، فليس هناك ما يدعوه إلى أن يترفق مع نفسه كما يترفق مع الناس مجاملة أو تهيباً أو توقيراً أو عطفاً أو شفقة، وهو مع شدته هذه أشد الناس رحمة لنفسه، فهذا الذي يصنعه ليس إلا تخليصاً لها من أدران البهتان وظلمات الأراجيف.

وإذا كنا قد رأينا أديباً كهذا الأديب قد انشطرت نفسه شطرين وتسلط كل شطر منهما على الآخر يحاسبه ويناقشه ويناضله كمن بينهما عداوة تهدي إلى الحق، فإننا قد رأينا أيضاً مغنين مجذوبين ورسامين مجذوبين وممثلين مجذوبين ومجذوبين آخرين من غير هؤلاء وهؤلاء.

والفرق بين كل واحد من هؤلاء وبين الأديب المجذوب، أن الأديب المجذوب مسحوب من لسانه إلى الحق فهو يعلنه بالكلام الملفوظ أو بالكلام المقيد كتابة، وأن الواحد من هؤلاء

<<  <  ج:
ص:  >  >>