للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

باشوية لم تقض على وارثي جاهها الفخم بمنحة الترف واللين، وإنما أورثت حفيدها القدرة على أن يقول: إن أهله كانوا من ساكني البادية؛ وعلى أن يقول: نحن أهلَ الصحراء، لا يغنينا النوم عن العشاء.

وقد كان أحمد حسنين في كل أدوار ماضيه من نماذج الفتوَّة واللوذعية، عاش في إنجلترا حيناً فكان صورة للفتى الموسوم بالبراعة والشهامة والصدق والجاذبية، ولم يمنعه تحضّره من الاتصال بالبادية، فاعتُمد عليه أيام الحرب الماضية في السفر إلى الصحراء الغربية للاتفاق مع زعمائها على رعاية واجب الجِوار في احترام الحدود.

ثم طوحت به همته إلى اختراق تلك الصحراء ليكشف واحتين كان لهما في أذهان أهل البوادي خيال، ولم يكشفهما أحد من قبل، فكان التوفيق من حلفائه الأوفياء.

ثم أراد أن يكون طياراً، ولكن الحوادث أرادت غير ما يريد، فقد طار من إنجلترا إلى إيطاليا، ثم سقطت طيارته، فأصلحها وطار، ثم سقطت فأصلحها وطار، وقد صمم على أن يدخل مصر طائراً ولو سقط بطيارته في جوف المحيط، ولكن برقية كريمة صدرت إليه بوحي من الملك فؤاد، فقهرته الطاعة على أن يدخل مصر وقد امتطى الماء، لا الهواء، وتلك أعظم محنة عاناها ذلك العربي الصوال.

الإنسان الكامل

وما أريد الإنسان الكامل في اصطلاح الصوفية، وإنما أريد القول بأن أحمد حسنين كان رجلاً كامل الرجولة حين اخترق الصحراء في سنة ١٩٢٣، والرجولة التي أعنيها هي الرجولة المبرأة من شوائب الضعف والغفلة والقنوط. كان أحمد حسنين في ذلك العهد رجلاً بكل معنى الكلمة: كان بدويِّا في مواطن البداوة، وحضريِّا في معاهد الحضارة. كان حليما في أوقات الحلم، وجاهلاً في أوقات الجهل؛ فكان له في كل حالة لَبوس، وكان في جميع أحواله صورة من الرجل الذي يرى الخلُق الصحيح في رياضة النفس على مسايرة ظرف المكان والزمان.

ومن المؤكد أن رحلة الصحراء نفعته في مركزه الحاضر، وهو رياسة الديوان بقصر جلالة الملك، فقد وصفته مجلة (آخر ساعة) وصفاً هو أعجب الأوصاف، حين قالت: إن أحمد حسنين يتمتع بأعظم المواهب السياسية، لأنه أقنع الجميع بأنه رجل غير سياسي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>