للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن طاعة الحديد البليد القاسي للفكر الطليق البارد تركت في أعصاب الأمم الصناعية آثاراً عميقة ستطمر لا محالة جوانب من عواطف الرحمة والمروءة في قلوب أفرادها، وتمحو آثار العصور الصوفية التي أدرك الإنسان نفسه فيها حين كانت النبوات تتلاحق عليه.

وإني لأتخيل الآن ما جرى في ساحات (الفلاندر) فأرى الإنسان وهو يدفع الحديد الجبار فيندفع، ويطلق البارود الصاعق فينطلق، والقنابل الصارخة فتصيح في نكر وشدة، ويملأ الجو بالدخان الأسود والنار الحمراء فيمتلئ، ويسيل النار من (باصقات) النار فتسيل على الأجسام البيضاء الجميلة ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية والجماجم المستوية وتذيبها كالشمع، وتسحقها كالرفات، وتذروها كالرماد. . . ويرفع القلاع الطائرة إلى أجواز الفضاء فترتفع. . . أتخيله وسط هذا كله لا يسمع صوت نفسه إذا تحدث، ولا يعي خروج نفسه إذا تنفس، ولا يحس ألمه إذا تألم، ولا صعق جسمه إذا أصيب؛ فهو في جنون الحرب يضرب الأجسام الحية النامية من شجر أو ضرع أو زرع أو حيوان أو إنسان ويخرب العامر ويهدم القائم فأقول: لقد تحول إلى قوة عمياء، وصار عاتياً كالريح. . . جارفاً كالتيار. . . أعمى كالصاعقة. . . قاسياً كالحديد. . . صابراً كالفولاذ. . . فظيعاً كالنار. . .

ولست أدري متى يفيق لنفسه ويعني بوضعه وتحولات حياته كما يعني بمستقبل المواد والقوى، ويربط ما بينه وبين الله مفيض الفكر والحياة كما يربط ما بين نفسه وأجزاء الأرض؟!

إن الآلة لا تدركه وهو يعمل فيها ويقوم عليها، وهي لا ترحمه من السحق أو البتر أو الصعق إذا تعرض لها جاهل بقوانين سيرها، فلا قلب فيها ولا فكر ولا حياة دم وعصب وروح. ولكن ما باله هو لا يفكر في الاتصال بمن أنشأه وركبه ونسقه وصوره وهو ذو الفكر والروح والوجدان والنزوع والإرادة والاختيار والتطلع والحزْر والحذَر والقدرة على قياس ما غاب بما حضر؟!

إن الاستسلام لغيبوبة الحياة الآلية ضياع وتطبُّع بطبع الحديد البليد الأعمى الدائر في غير وعي وإحساس، وأخوف ما يخاف على الإنسان أن يترك هكذا فريسة وضحية للآلات يعيش معها ويقدم لها وقودها إلى أن يفني وقود حياته هو وينطفئ مصباحه ويذهب إلى ظلمة القبور بدون بصيرة منيرة يسعى نورها بين يديه في العالم الباقي غير المنظور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>