للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أخلاق القرآن]

العفو

للدكتور عبد الوهاب عزام

العفو خلق يسمو بصاحبه عن الانتقام، ويكبر به عن المجازاة، ويتعالى أن يلقى الشر بالشر ويجزي السيئة بالسيئة. العفو خلة تؤثر الرحمة على العقاب، وتحل المودة محل العداوة، والوئام محل الخصام. ترى الرجل يؤذي في نفسه أو ماله فإذا قدر على خصمه استكبر أن ينزل إليه فيأخذه بجريرته، وآثر أن يغفر ويرحم، ووجد في هذا الإحسان من العزة والعظمة والطمأنينة ما لا يجد في الانتقام، ولقاء الجناية بجزائها.

وإنما العفو عند المقدرة. فليس الذي يصبر على الضيم، ويخنع للقوة، ويستسلم للظلم عفواً، ولكن خائفاً ذليلاً. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:

كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام

وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). وقال بعض المفسرين: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا)

وعظماء الناس يؤثرون العفو ما لم يجدوا فيه مفسدة لأمر من أمور الدين أو الدنيا. وقد عرف بذلك كثير من ملوك المسلمين ولا سيما الخليفة المأمون العباسي. ورويت في العفو عند المقدرة أخبار تنبئ عما يملك قلب الرجل العظيم من الحلم والعفو في الخطوب الجسام. كما أُثِر من استعطاف المؤمنين في مقام العقاب ما يذهب بالحفيظة، ويوجب المغفرة.

كانوا يرون العفو وسيلة إلى استصلاح النفوس وإزالة الأحقاد، وإحلال الوئام محل الخصام فيؤرثونه على الانتقام.

قال خالد بن الوليد لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة، وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأهل للعفو، وإن تعاقب فبما كان معنا).

وقال رجل لبعض الأمراء: (أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر مَن بُرئي أحبُّ إليه من سقمي، وبرائي أحب إليه من جُرمي).

وقال بعضهم: إن عاقبت جازيت، وإن عفوت أحسنت، والعفو أقرب للتقوى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>