للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[يومان من أيام الرسول]

يومان من أيام الرسول تضمنا سر النبوة كما تتضمن النواة سر النخلة، ولخصا تاريخ الإنسانية كما يلخص الجنين تاريخ الإنسان. ذانك يومه الخائف المجهود وقد خرج مهاجراً إلى المدينة، ويومه الآمن المشهود وقد رجع ظافراً إلى مكة!

كان يومه الأول خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام الفواتن تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. . .

وكان يومه الآخر فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، خنس فيه الشرك واستخذت الجهالة وذلت قريش حتى قال الرسول وهو واقف بباب الكعبة: لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!

وإذا كان للرسول في تاريخ الإسلام يومان لا تزال العقول تقع منهما كل يوم على سر، فإن مصدر هذه الأسرار معجزتان لله لا تزال الإفهام تكشف فيهما كل حين عن آية: معجزة الرسول في خلقه، ومعجزة القرآن في بيانه، وقد انكسر القرن الرابع عشر على هاتين المعجزتين والأذهان البصيرة الموالية والمعادية تدرس آثارهما وتستبطن أسرارهما، فما بلغت من ذلك كنها ولا غاية

كان محمد في يوميه العظيمين مثل الإنسانية الأعلى: حمل رسالة الله وحمل أبو جهل رسالة الشيطان، واستحالت مكة المشركة جبلاً من السعير سد عليه طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتتسعر بالعذاب؛ وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبى لهب بالأذى والهون والمعاياة والمقاطعة. وكل قريش كانت يومئذ أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن شياطين مكة في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي قومه وفي أصحابه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لان ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (الندوة) فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (الغار) فقدر النجاة. وانطلق محمد وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المشركين في الطريق الموحش الوعر إلى يثرب. وكأن هؤلاء الناجين بدين الله لم يكادوا يدخلون في غيب الطريق حتى انشقت الصحراء عنهم فإذا هم عشرة الآلاف من جند الله يجرون الحديد على النياق الكوم والخيول الجرد، والرسول في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يظهر منهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>