للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العدد والعدة، وفعلت العوامل النفسية في القوم فعلها، فرجع فاتحاً منتصراً؛ ولكنه كان كريم الخلق، جميل العفو. لقد ضرب للناس بآدابه مثلاً لو أدركوه وساروا في هديه لعم العالم السلام، ولصفق في جوه الإخاء، ولكن العالم قد فسد تأمله، ففسدت أغراضه، وسار أكثره وراء الطمع، فكان ما كان من جور وطغيان، واستسلم العالم لحروب تأتي على الأخضر واليابس

وكان الرسول كريم الخلق، وكان المصلح الاجتماعي البصير، وكان الخطيب الذي لا يصيبه في الملمات عي، ولا يدركه في المخوفات بهر، يزن كلامه بميزان الحكمة، وما كانت آياته السامية إلا صورة لنفسه السامية. كان خطيبا لا يبارى؛ وكان الشجاع الذي لا يبالي الهلكات

اجتمعت له النجدة والبسالة والشدة، وكان شهما فيه صرامة وفيه قوة لا يطمع في خداعه، ولا يغمز جانبه؛ وكان عظيم الثقة بنفسه، وتلك صفة الرجل الذي يعلم أن الله معه وأن الثقة بالنفس من لوازم الرسالات، حسنت معاشرته واستقامت أغراضه؛ وكانت له هيبة الروح وسعة الحلم، وكرم العفو، ورعاية الرحمن

انظر إليه وقد لقيه عل ى غرة أحد أعدائه، وشهر السيف على رأسه قائلا: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال: (الله) ما أروعها كلمة! نعم يمنعه الله، ولقد منعه حقاً، فسقط السيف من الرجل وأخذه الرسول وقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل وقد أسقط في يده: كن خير آخذ. فقال الرسول: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال: لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى الرسول سبيله

فهل رأيت أعظم نفسا من هذه النفس الروحانية؟ وهل رأيت رجلا يقدر الرجولة ولو في عدوه هذا التقدير؟ الرسول الكريم يطلب منه الأيمان فيأبى، ولكنه يعاهده على السلام فيكون له العفو الجميل. إن في ذلك لآية رائعة للقدرة حين ترحم. إن في ذلك لفلسفة عالية لو أدركها العالم لتجمعت أطرافه، ولرفرفت عليه أجنحة السلام

إنها لحكمة من الرسول الكريم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه

(المنصورة)

محمود الشبيشي

<<  <  ج:
ص:  >  >>