للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

مرض طبيب. . .

للأستاذ نجيب محفوظ

قبل عامين تفشى وباء التيفود في مديرية الغربية تفشياً مخيفاً فتك بنفوس الكثيرين، وصادف ذلك انقضاء بضعة أشهر على تعيين الدكتور زكي أنيس طبيباً بمستشفى طنطا وفتحه عيادته الخاصة، وكان في تلك الأيام يلاقي الشدائد المقضي على كل مبتدئ في فنه أن يلقاها أول عهده بالحياة العملية. فكان ينتظر طويلاً وعبثاً توارد الزوار والمرضى مستوصياً بالصبر والتجلد حتى كاد يلحقه الجزع. فلما تفشى ذاك الوباء الخبيث تضاعف عمله بالمستشفى وشحذ نشاطه ومضى يراقب حركة السيارات التي تطوف بالبيوت وتعود محملة بالضحايا بعينين كئيبتين وعزيمة متوثبة، وأحس بالرغم من كل شئ بسرور خفي، وأحيا قلبه الأمل في أن يدعى يوماً لعلاج مصاب من الذين تثقل بهم جيوبهم عن الانتقال إلى المستشفيات العامة، ولم ييئسه تقاطر الناس على كبير الأطباء وبعض الأطباء القدماء بالمدينة وأصغى إلى هاتف تفاؤل ما انفك يهمس لقلبه بأن دوره لا محالة آت.

وصدق أمله، وإنه ليجلس إلى مكتبه يوماً يقلب صفحات كتاب وتجري عيناه على أسطره جريان الشرود والملل إذ طرق بابه كهل يدل منظره الوجيه وزيه الريفي الثمين على أنه من الأعيان؛ ولعله قصده بعد أن يئس من العثور على سواه، فطلب إليه بلهجة تنم على القلق أن يصحبه إلى العامرية على مسير ربع ساعة بالسيارة. وكان الشاب يعد العدة لمثل هذا اللقاء فلم يبد على وجهه أثر مما اضطرب في صدره من الفرح والظفر، فألقى على القادم نظرة رزينة وقام من فوره فخلع معطفه الأبيض وارتدى الجاكتة والطربوش وأخذ حقيبته وتقدمه إلى الطريق. والتقى أمام الباب بسيارة فخمة فخفق قلبه مرة أخرى وتريث حتى فتح الرجل الباب وقال له (تفضل) وجلسا جنباً إلى جنب وانطلقت بهما السيارة، وحافظ على هدوئه ورزانته وصر بأسنانه ليطرد ابتسامة خفيفة تحاول أن تعتلي شفتيه؛ وكأنه أراد أن يداري عواطفه فسأل الرجل عن مريضه، وتكلم الرجل في إسهاب فقال إن المريض ابنه وأنه لم يجاوز العشرين من عمره، وأنه أحس منذ أيام بتوعك وخور ورغبة عن تناول الطعام، ثم ارتفعت حرارته واستسلم للرقاد فسأله: (هل حقن بالمصل الواقي؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>