للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والجدير بالنظر إنما هو النضج الذي غذته أثمار العقول الإنسانية في هذا الوقت، والذي يتيسر للمثقف أن يشارك في إنماء هذه الأثمار أو تحسينها، في آية ناحية يميل إليها، فيكون لعمله شأن يذكر له ويشكر، والأستاذ نفسه أدرى الناس بالفرق بين نضج عقله القوي قبل أن يعي كل ما استوعب من الثقافة الغربية، أو العصرية، وبين نضجه بعد ذلك؛ لكن كان عليه أن يعارض رأي مناظريه، فعارضه بطريقة حاذقة شفت عن هذا النضج الأخير، أي عن ثقافة سامية

والخلاصة أن العقل يعد ناضجاً، أو غير ناضج، لا من حيث تأديته وظيفته فحسب، بل من حيث قيمة ما وعى وما ينتج، فهي قيمة مناسبة لدرجة علمه وثقافته، والمهم إذن في النضج إنما هو مستوى (الموضوعات والمواد التي يتناولها) عمل العقل؛ ولذا ليس يمكن أن تنضج للشرقيين حياة عقلية إذا هم لم يأخذوا عن الغرب في هذا العصر. أما إن هم اقتصروا على تراث الشرق بحاله المحدودة في ثقافته عصر غابر كانوا كأنهم عائشون فيه، ولمن أراد بنضج العقل ذلك النضج الأول، أو أراد نضجاً عتيقاً، أن يقول إن (التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، ولم يخل الشرق من العقول الناضجة قديماً وحديثاً)

فهارون الرشيد وابن خلدون كان كل منهما ناضج العقل في مستوى الثقافة العربية في زمانه ومكانه، بعدئذ مضى على خروج العرب من شبه جزيرتهم قرنان إلى ثمانية قرون بنوا دولهم فيها على ما طوعوا للدين والشريعة من نظم ومدنيات وفلسفات لأمم كاليونان والرومان والفرس وسواهم. أما جمال الدين الأفغاني فقد يكون فيما نعتوه به مواضع نظر لعلها تستدعي التحقيق العلمي المتحرر من المؤثرات الوجدانية والسياسية؛ ولولا تفاهة ما أفاد من الثقافة الفرنجية لاختلف شأنه. . .

وليس يصح إن نوازن بين عقول أمثال هؤلاء الرجال وبين عقول تلاميذنا لتفاوت الأسنان والتجارب والمشاغل، ولقلة المحصول في التلمذة فضلاً عن أننا ما نزال في سبيل التحصيل من الثقافة الحديثة؛ ولسنا نشك في أن بين تلاميذنا النجباء من لا يقل في نضج العقل، ذلك النضج الأول، عن أولئك الرجال حين كانوا في سن التلمذة

ألا أن البحار والجبال لم تحل دون التنقل والاتصال بين بني الإنسان من قديم الأزمان حتى عصر الطيران. والناس إلى الآن يفرقون بين الشرقي والغربي، وبين الأسود

<<  <  ج:
ص:  >  >>