للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نظرات في الشعر]

للأستاذ محمود البشبيشي

من الشعر ما يلعب بالنفوس لعباً، بل يقلب جوهره قلباً، فيبعث في الرجل الصخري المزاج روحاً ارق من نسيم الفجر، والطف من شفاء الورد، وأنقى من دموع الفرح؛ ومن الشعر ما ينفذ إلى القلوب بغير إذن، لأن كل لفظ فيه لفظ من القلب، وكل مقطع من مقاطعه قطعة من الفؤاد، تتفتح له القلوب لأنه منها، وتتلقاه خافقة لأن كل نغم فيه من خفقاتها. في الشعر قيود لا انفكاك لها، ولكنها قيود محبوبة، يحس بضرورتها من كان من ذوي النفوس الحية، والقلوب الندية، ويحس بضرورتها من يضيقون بحرية الحياة الجائرة وقد فسدت، وحرية الشهوات والنزعات الداجية وقد تمادت، فيميلون إلى قيد من قيود الشعر يسعدون به، ويشعرون فيه بمعنى حرية الطهر والنقاء. إنهم يشعرون بالحرية في قيده، لأن الشعر حين يقيدهم إنما يقيد صوراً حية من الحياة الجائرة، ويمنعها من الوصول إليهم، أو يطهرهم منها لحظة، ويتيح لهم أن يتصلوا بعالم منغم حلو نقي هو عالم الشعر

بحث الكتاب في الشعر، وسيبحثون لأنه موضوع الشعور الحي، موضوع الروح: موضوع الحياة، سار مع الزمن، يضعف في عهد فتذبل أناشيده على الشفاء، ويشتد في عهد فتغنى به القلوب، وما ضعف ولا أشتد لعجزه عن مسايرة الزمن وأطواره، ولكنه ضعف حين ضعف المشاعر النبيلة في النفوس، وغشيت القلوب الأطماع، وأشتد حين تلألأت في النفوس أنوار الشعور، وأحس الناس أن في صدورهم قلوبا تخفق، فمالوا إلى ترجيع الكلام، حتى يجانسوا بين أنغام القلوب وبينه. . . ولعل هذه الصلة هي أصل الشعر! ومن هنا كان الشعر محبباً إلى النفوس لأنه منظم لمشاعرها، ولأن الطبيعة وهي مصدره منظمة منقمة. ولا عجب، فكل ما في الشعر من وزن وقافية وموسيقى أساسه النظام. من روعة الشعر أنه خلق نفسه خلقاً في حياة الإنسان، لينظم ويرتب وينسق كل ما يتصل فيها بالشعور. . .

قاله الشاعر حين اضطربت مشاعره في نفسه وغلبته الآلام والآمال، وتراكمت ففقدت النظام؛ وشعر هو بذلك فضاق واضطرب، وضج وثار، وفكر وتأمل، ولما صدق تأمله أدرك أن في نفسه تعبيرا عجز عن بيانه، وإن حديثه وخطابته لم يجدياه نفعاً ولم يخففا

<<  <  ج:
ص:  >  >>