للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مؤكدة أن ليس بهما جوع ولا تعب. ولكن الضرب في هذه الحرة المحرقة ثلاث ساعات من الكسوة إلى زاكية، ثلاث ساعات في هذه الظهيرة اللاذعة قد قتلهما عطشا.

ولم تشأ المحدثة أن تثبت هذه المناسبة دون أن تعظ أولادها وتصف لهم جلال الأخلاق الماضية وجمالها فقطعت قصتها وقالت:

أرأيتم؟ هكذا كان الناس: يساعدون الغريب يواسونه بنفوسهم، لا كما تصنعون انتم اليوم.

فقلت: ولكن الرجل؟ هل أكل ما حملوا إليه من طعام؟

قالت: كلا، كان مريضا فلم يأكل شيئا. أما البنت فقد كانت سابغة لاغبة. فأكلت وشربت ثم نامت مكانها من التعب.

حملوا الرجل وابنته إلى دار الشيخ، وكان المرض والضعف قد بلغا بالرجل. فأرادوه على الطعام ليشتد أزره فأبى. فعرضوا عليه الدواء الذي يتخذونه لمثل علته فرفض أيضا: - لا أريد. لا أريد شيئا. لا تفكروا في. أني ميت. قد انتهيت، ولكني موصيكم بهذه الطفلة فهي أمانة في أعناقكم. . لقد غالبت الموت حتى بلغت بها هذه القرية، قد حملتها فوق ما يطيقه إنسان، لقد جابت معي البلاد كلها من القسطنطينية إلى هنا، من القسطنطينية إلى زاكية في ست سنين لم نذق فيها ليلة هناء واحدة.

وأطبق عينيه وفمه. وسكت، وحاولوا أن يفهموا منه شيئا آخر فلم ينبس. واعترته حال غريبة لم اكن اعرف يومئذ ما هي، ولكني فهمت منها، ومن صوت الرجل الذي خرج خافتا رهيبا كأنه خارج من قبر، ومن وجهه الشاحب المخيف، وأنفاسه المتقطعة ولهجته الغريبة، انه ليس كمن أرى من رجال، وان له شأنا. . . ولكني لم استطع البقاء اكثر مما بقيت فعدت إلى الدار كيلا تضربني أمي.

وفي الصباح سمعت إن الغريب قد مات - مات ليلة قدومه كأنما قد طوف في بلاد الله هذا التطوف لينام إلى الأبد على هذه الحجارة السوداء، ويستمتع بحلم طويل اثر رحلة شاقة!

بقيت الطفلة وحيدة فكفلتها زوجة شتيوي، وكان شتيوي من شيوخ البدو المقيمين في هذا البلد. وكان غنيا موسرا، ولكن زوجه عاقر لم تأته بولد طيب صالح يعلمه الفروسية والرمي، ويستخلفه في أهله وماله، على الرغم من أنها راجعت الأطباء والمنجمين والمشايخ والمشعوذين في دمشق وفي قطنا، واصطنعت عشرات الأدوية والتمائم فلم ينفعها

<<  <  ج:
ص:  >  >>