للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سيرة السلف الصالح داع إلى مخالفة سيرة العلماء المبرزين. والداعي إلى كتب الأولين مقصر عن فهم كتب المحققين من المتأخرين. والمنادي بأن كتب الفقه وكتب التفسير وكتب الحديث ملئت بمعلومات خاطئة وبأوهام وقصص لفّقها من قبل علماءُ الإسرائيليات مخالف لما درج عليه صالحوا هذه الأمة وجهابذتها

عاش الشيخ في هذه البيئة العلمية ضيق الصدر مرير العيش. فمن من أصحاب الفطر الصادقة والنظر السليم يؤمن بالقرآن ويعتقد أن فيه هدياً وفيه شفاء، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للأمم كلها وللعصور كلها، يؤمن بأن هذه الدراسة الدينية والعربية تخرج للناس إماماً يهتدون بهديه، ويشفي أمراض المجتمع في علمه وخلقه ونظامه، ويضع له القوانين الصالحة والنظم اللائقة

عاش الشيخ في هذه البيئة يلتمس الوسيلة، وتطلب نفسه مخرجاً منه، وتتطلع إلى رجل يشفي صدره ويزيل قلق نفسه، ويشد أزره، ويبصره بالدين وبالحياة، وينضم رأيه إلى رأيه في أن هذا الذي يراه ليس هو الدين؛ وهذا الذي يعيش فيه الناس ليس هو الحياة؛ وهذا الذي يدرسه من الكتب ليس موصلاً إلى العلم الصحيح بل مبعداً عنه؛ وهذا الذي يتعارفه الناس في طرق الدراسة هو غير طرق الدراسة الصحيحة النافعة

مر بهذا الطور ثم أعطاه الله ما كانت تصبو إليه نفسه، فهبط إلى مصر جمال الدين الأفغاني، وهو رجل ثائر على النظم الموجودة جميعها: نظم الدراسة ونظم الحكومات؛ خبير بأحوال الدنيا وأحوال الأمم، عليم بأدوار التاريخ وما تقلبت عليه الأمم الإسلامية من أطوار، خبير بالتاريخ العلمي الإسلامي وبغيره من التواريخ، عالم بمذاهب الأمم ونحلها، عالم بالاستدلال وطرقه، بصير بالدعوة إلى الله سبحانه وبالدعوة إلى ما يريده من الآراء والمذاهب؛ يفقه أغراض الدين العامة، ويحترم العقل ويعرف له قدره، ويضع الرجال مواضعهم لا يعطيهم أكثر مما يستحقون

رجل يمت بصلة نسبية إلى صاحب الرسالة ويرى أن عليه ديناً لجده لا بد أن يؤديه. ذلك الدين هو وقف مواهبه جميعها على تبيين هذا الدين وإصلاح حال المسلمين. وجد الشيخ في السيد جمال الدين بغيته، ووجد ما يشبع نهمه ويشفي صدره ويزيل صدأ عقله ويشحذه، ويرد ذلك الجوهر صافياً نقياً لامعاً كما فطره الله، ثم يملؤه علماً ويقيناً وإيماناً ومعرفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>