للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من رسائل الصيف]

الدار المقدسة

(مهداة إلى الإنسان الشاعر. .)

للأستاذ عبد الحميد يونس

أخي إبراهيم. . .

قرأتُ فيما قرأت أن هُناك مرآة مسحورة لا ترى فيها نفسك في لحظة من لحظات حاضرك أو فترة من فترات مستقبلك، ولكنك تشاهد فيها شخصك في برهة واحدة تختارها من ماضيك.

وأنا الآن أتمنى كالأطفال أن أحصل على هذه المرآة، وأن أركب في هذا السبيل ما يركب أبطال الأساطير من أهوال، فإن عبور البحر أهون من عبور الزمن إلى الوراء، وملاقاة المجهول آلم من ملاقاة المعلوم، واستعادة الذي كان معك ثم ضاع، أشهى من حصولك على مالا ترتقبه مما هو آت!. . .

ودعني أسائل نفسي وقد تحققت أمنية العثور على هذه المرآة (أي لحظة من لحظات ماضي أريد؟). . . هي هذه الومضة من ومضات صباي وقد ذهبت إلى بيتنا الجديد، فلم أنظر إليه إلا بعد أن تمليت من البناء المواجه له ذي النوافذ الشبيهة بنوافذ المساجد، وكنت أعلم أنه مقام صاحب النظرات والعبرات

هذه الدار أيها الصديق أنفقت ما يقرب من خُمس قرن خلعتُ فيها صباي وسلختُ شبابي؛ دخلتها تسابقني آمال عذاب، وخرجت منها بذكريات أعذب!

وما أظنك نسيت البرج الذي كان يشبه أبراج المنائر حيث كنت أبشر بالطريقة الإشراقية التي تعلو على الناس وإن لم تنفصل عنهم؛ وحيث خيَّلت إلي نفسي القدرة على مطاردة الأوهام والوساوس والكشف عن الترهات والأباطيل؛ وحيث ظننتني أستطيع هداية الضالين، ولو كانوا من القرصان والمهربين؛ وحيث رأيتني أحارب إله الظلام، فلا أكاد أصرعه حتى أراه يتسلل من الناحية الأخرى!

أو نسيت الغرفة الجرداء التي كنت أستقبل فيها وفود العكر زمراً تعقبها زمر، وأفراداً في

<<  <  ج:
ص:  >  >>