للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تصطرع فيها طباع المتسوقين من الإغراء والإباء، والصخب والغضب، والمشادة والملاينة، والمسارَّة والمسايرة، ثم ينجلي الأمر عن صفقة من الشعير أو الرز. وهنالك في أقصى الشرق مناضد بُسطت عليها أغطية من القماش المفوَّف وقد أحاط بها عقائل من حسان الروم يفسرهن شباب منهن، قد أنقذهم من نار الحرب سلام النيل، وأفرغ عليهم وضاءةَ النعيم خير مصر، وضمن لهم عيش الأمان سماحة المصريين؛ فهم يتساقون أقداح الزبيب، ويتناقلون أحاديث الأنس، ويتطارحون أضاحيك الحياة، كأن شعبهم لم يذل ووطنهم لم يحتل ومَلكهم لم يشرَّد!

وفي خلال هذه الزمر ترى شاعراً وسنان الحركة نشوان الحس يقرأ على صفحة النهر الوردية أشعار الطبيعة، أو طارئاً من ضخام القرويين لم يطق صبراً على عبث النسيم فنام على كرسيه أثقل النوم، وغط في نومه أقبح الغطيط. وعلى حفافي القهوة ومماشيها تتهافت أفناءٌ من ذباب البشر يقولون إنهم من رعايا وزارة الشؤون الاجتماعية، فيهم المعتوه المخيف، والمريض المعدي، والشيخ المتهدم، والشمطاء الخاوية، والناشئ الضرير، وكلهم يسأل بإلحاف، أو يبيع بسماجة، أو يحتال في سخف!

وتحت الدوحة الكبرى وفي مكان لا يكاد يتغير تجلس جماعتنا طرفي النهار وزلفاً من الليل. وهذه الجماعة من تأليف الحب وحده. تقارب في أفرادها الذوق والرأي والهوى فتمكنت بينهم الألفة، واستكمل بعضهم من بعض ما نقص من عوامل أنسه ومباهج نفسه. واحسبني لا أعدو الحق إذا قلت إنها كثيراً ما تشقق الحديث في شجون من الأدب والتاريخ، وفنون من السياسة والنقد، وشؤون من التجديد والإصلاح، إذا هي سجلت في الرسالة على إيحاء الخاطر وإملاء الطبع كانت نوعاً من الإنتاج الأدبي له قيمته وأثره. ولعلني أستطيع أن أنقل إليك الحين بعد الحين مقطعات من هذه الأحاديث تجد فيها لوناً طريفاً من ألوان المعرفة

واسطة عقد الجماعة رجلان كل منهما طراز وحده في مناقلة الحديث ومبادهة الرأي: أحدهما الأستاذ توحيد السلحدار، والآخر الأستاذ الزناتي. أما صديقنا السلحدار فكنز مدفون لم يشأ الله أن يعرف: نفس كريمة لا تخلق إلا في ملك، وحس مرهف لا يكون إلا لشاعر، وذوق سليم لا يوهب إلا لفنان، ورأي حصيف لا يختمر إلا في حكيم، وثقافة شاملة لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>