للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بكائه ونحيبه هواه لهذه الجارية أم هناك سبب آخر؟ يقول صاحب الأغاني إن خالداً كان مغرماً بالمرد ينفق عليهم كل ما يفيد، وأنه هوى غلاماً يقال له عبد الله كان أبو تمام يهواه، فتهاجيا بسببه وأنه وسوس على أثر ذلك

وهنا نتساءل: (هل اتخذ خالد من بكائه وألمه ما اتخذه موسَّيه؟!)

لا جرم أن خالداً لم يذهب مذهب موسيه في بكائه وألمه، ولم يفطن للألم وأثره في النفس، ولم يبرع في تصوير الألم براعة موسَّيه، ولم تكن في شعره تلك الصفة الإنسانية التي تجدها عند موسيه. فقد تجد بعض التكلف في العواطف والغلو في المعاني لديه؛ على أنه تفنن في وصف الدمع، وشعره فيه يعذب ويرق. ولا شك أنه الشاعر الفرد الذي بلغ في وصف الدمع ما لم يبلغه أحد من شعرائنا، وهذا ما يمتاز به من موسيه

ويحدثنا خالد في ديوانه أنه أصبح دنفاً هائماً بمن صارمه واحتجب عنه، فبكى؛ وجعل الدمع مداداً يكتب به على خده ما في فؤاده!

ثم طلب من الحبيب أن يفهم معاني دمعه. فلما أعرض عنه هواه وفقد الراحة، لج في تذراف الدمع حتى تقرحت عيناه وطلبتا العذر منه، فلم يعذرهما لأن قلبه لا يعذره ولا يشفق عليه

ولقد كان إذا مرض فله عائدوه، ونأى عنه طبيبه، دعا الدموع فهي مطيعة له، تسرع إليه وتجيبه. وهو ينصح لمن كان هذا شأنه أن يفعل ما فعله، وإذا أنكر الحبيب حبه ودنفه فهو يتخذ الدمع شفيعاً شهيداً. وما زال يبكي حتى كاد يعشب خده:

ولو أن خداً كان من فيض عبرة ... يُرى معشباً لا خضر خديًّ فأعشها

كأن الربيع الزهر بين مدامعي ... بما اخضل فيه من ضني وتصيبا

على أنني لم أبك إلا مودعاً ... بقية نفس ودعتني لتذهبا

وما زال هكذا حتى تخاصمت عينه وقلبه:

القلبُ يحسد عيني لذة النظر ... والعينُ تحسد قلبي لذة الفكر

يقول قلبي لعيني كلما نظرتْ: ... كم تنظرين؟ رماك الله بالسهر

العين تورثه هماً فتشَغلُه ... والقلب بالدمع ينهاها عن النظر

هذان خصمان لا أرضى بحكمهما ... فاحكم فديتك بين العين والبصر

<<  <  ج:
ص:  >  >>