للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يدفعه إلى أن يحدث الناس بها. ولكنه كان يبحث عبثاً عمن يستمع إليه. وفي يوم من أيام عمله ألقى نفسه وحيداً مع فرسه فناجاها: (نعم يا فرسي الصغيرة! إنه مات ولدي الحبيب، وتوارى سريعاً من دون علة. لنفرض أن لك مهراً، وهذا المهر مات على حين غرة، ألا يؤلمك فقده؟) أما الفرس فقد رنت إليه بعينين هادئتين لامعتين، ونفخت من أنفاسها بين يدي صاحبها الذي أنجز قصة موت ولده.

ولتشيكوف قصص رائعة وقفها على وصف الحياة للقروية التي تشبه من وجوه عدة حياتنا القروية. ومن ذلك (القرويون)، فنيقولا خادم في أحد فنادق (موسكو) ساوره داء عياء ووجد نفسه مضطراً إلى مغادرة عمله. وكان كل ما يقتصده يذهب إلى أيدي الأطباء والصيادلة. وعندما يئس من شفائه قرر أن يعود إلى قريته حيث أهله وأخوته، لأنه يؤثر إذا فاتته الحياة أن يموت على مرأى من أهله. لقد تر القرية حين كان فتى ثم لم تقع عليها أنظاره بعد ذلك. عاد هو وزوجه وابنته، فوجد أباه وأمه وأخوين له مع أزواجهما وأولادهما في هوان وفاته، وألقى أن الأسرة كلها تأوي إلى زريبة مظلمة قذرة يرن في أجوائها الذباب؛ فأدرك أن بقاءه في موسكو كان الأجدر به، ولكن هذا أمل خادع لأنه لا يملك أجر العودة. إذن يجب البقاء في هذا اللحد الذي أختاره. وهكذا استقبلتهما هو وزوجه حياة كلها تعب ونكد وشقاء ليس فيها إلا النزاع والصفع والهوان بدون نهاية. إنه يريد أن يعود، لأنه مل هذا الوجود؛ ولكن أني له المال؟ فزادت صحته سوءاً على سوء؛ فوعده صاحب قديم بشفائه، فقام بجملة تجاريب كانت القاضية عليه. وقضت زوجه من بعده شتاءها في القرية مع ابنتها. فأسرع دبيب الهم بخطوط الكهولة إلى وجهها الذي كان يحار فيه ماء الشباب، ومالت قامتها، وتبدلت حالتها. ومن ذا الذي يبقي على الهم؟ أقبل الربيع والأم وابنتها تدخلان الكنيسة ثم تزوان ضريح فقيدهما، ثم تطوفان سائلتين في الطرق! وتشيكوف نفسه يقول: (إن حياة عمالنا هي سوداء تمشي في طريق الفسق، أما حياة الشعب: عماله وفلاحيه، فما هي إلا ليل مدلهم ملؤه الجهل والفقر والألم)

إن تشيكوف ببراعته الفائقة، ونظراته الشخصية، يصف الحياة الإيجابية والسلبية؛ وهو ليس بذي طبيعة هجائية، لأن كتابته يغمرها العطف العميق. وهو لا يسخر من أبطاله، وإنما يشفق عليهم. عبقريته هادئة، مفكرة، عميقة، ولكن يخيل أحياناً أن هذا الهدوء ليس

<<  <  ج:
ص:  >  >>