للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من حديث الشهداء]

للدكتور طه حسين

لم يذكر في تلك الليلة ماضيهم الحلو، وحاضرهم المر، ويستمتعون فيها عن أوطانهم تلك النائية التي كانوا ينعمون فيها بلذات الحياة، ويستمتعون فيها بخفض العيش، ويسيرون سيرة الأحرار لا يعرفون لأحد غير قيصر وعماله عليهم سلطاناً، وقد يعرف لهم غيرهم كثيرا من السلطان والبأس، وقد يقدم إليهم غيرهم كثيرا من آيات الطاعة والإذعان. ولم يسمروا بهذه الأحاديث التي تعودوا أن يسمروا بها إذا فرغوا من أعمالهم وانصرفوا إلى راحتهم ولقي بعضهم بعضا حين ينقضي النهار ويتقدم الليل، والتي كانوا يستعيدون بها حياتهم تلك الجميلة المشرقة، ويستحضرون بها مواطن لذاتهم ونعيمهم، هناك حيث لا يشتد القيظ حتى ينضج الجلود ويصهر الأجسام، وحيث لا تقع العين على الجبال الجرد والوهاد المقفرة، وحيث لا تضيق الأرض بالناس ولا يضيق الناس بالأرض، وحيث يستقبل الناس أيامهم راضين باسمين، ويستقبلون لياليهم لاهين عابثين. كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به من ذكر الفاتنات المفتونات اللاتي كن يحولن حياتهم أحلاماً ويجعلن جدهم لعباً، ويسرين عنهم كل هم، ويغرين بهم كل نعيم، يخلبنهم بالفظ واللحظ، ويعذبنهم بالذل والتيه، ويسعدنهم بالقرب والوصل، كلا ولم يسمروا في تلك الليلة بأحاديث قيصر وقصره، ولا بأنباه الحاكم وحاشيته، ولا بقصص الحرب بين الفرس والروم، وأين هم الآن من قيصر وقسطنطينية؟ وأين هم الآن من تلك الثغور الباسمة القوية التي كانت تبسم لأهلها كأنها الجنات، وتعبس لأعدائها كأنها الجحيم. وأين هم الآن من الفرس والروم؟ وأين تكون مكة من ميادين الحرب بين الفرس والروم؟ كلا. ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث ساداتهم ومواليهم، ومما كان يتصلبينهم من التنافس والجهاد، ومما كان يدبر بينهم من الكيد والمكر، ومما كان يجتمع لهم من الغنى والثراء، ومما كان يلم بهم من الحوادث والخطوب كلا، ولم يسمروا في تلك الليلة بما كانوا يسمرون به أحياناً من أحاديث هذه القوافل التي تفصل من مكة إلى الشام، فتمضى معها نفوسهم تسايرها في تلك الطرق البغيضة التي يذكرون طولها وثقلها حين قطعوها عناة أذلاء يساقون إلى مكة عبيداً أرقاء، والتي كانت تعود إلى مكة قافلة من الشام تحمل من أرض قيصر أنباء

<<  <  ج:
ص:  >  >>