للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد اصبح وكأنه أديم مرقوم قد تفَرَّى عاثَ البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتي فما أريد! أنا كالساري في لجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يبحثُ عنها بين الحصى والرمال!. . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود

ورأيت الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فرَحَمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يأوى لهن فيؤوب إلى كبعض ما كان، قلت:

ظلمت نفسكَ يا أبن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك. صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لها الأمر، ولكنك استُحْفظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذكراً في شيء هو أكرم واحب وأرضى عندها منهن. أجمل يا أبا محمد، أجمل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ربا صدره بالزفرات وهو يقول:

لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي! ... عليك الليالي كرَّها وانفتالها

فأما وقد أصبحت في قبضةِ الرَّدَى ... فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَالها

. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف - بربك - كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهواً يتلَعَّبْنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألماً كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات؛ وإن إحداهن لتعدوا إلي تستأوى فأحملها؛ فكأن قد والله حملت بها صخرة مسرفة يعي حملها، لولا بقية من رحمةٍ - يا عمر - عنهن نفرةً واحد لا أراهن ولا يرينني

أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا أبن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يحتال، فقلت له:

أأراك أنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرقٌ مما يأخذه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>