للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكم أود لو أظفرنا باستخلاص الأخلاق الإنسانية الثابتة من الطبيعة وحدها حتى نضع من ذلك قانون الأخلاق للجميع! وإن الأخلاق تفاعلات بين النفس والطبيعة وبين النفوس والنفوس، وليست منزلة من السماء، وإنما الذي ينزل من السماء هو الإرشاد إليها حين يضل الإنسان طريقها.

إن العلم الطبيعي هو أعظم أبواق الحياة في دعوة الناس إلى اللقاء والسير في طريق التعارف والتكافل. والشقاء الحالي الذي تصلي الإنسانية نيرانه ناشئ من إنها لم تستجب لدعوة العلم والخضوع لما يوحيه من وحدة المصلحة والمنفعة والطريق. . .

وفي اليوم الذي تتسع فيه أخلاق الفرد لبني أمته وأخلاق الأمم بعضها لبعض، ويؤمنون بضرورة ضبط النفوس وتوزيع الموارد الاقتصادية - وهي كثيرة كافية في الطبيعة - توزيعاً عادلاً، والتعاون على مكافحة الشر والألم: الشر الذي مبعثه الغضبية والأنانية الفردية والقومية، والألم الذي مبعثه أذى الطبيعة وآفاتها؛ فلا شك يسعدون في جنة موقوتة يجدونها في الأرض قبل الجنة الموعودة في السماء!

قد يبدو هذا الكلام لكثير من الذين لا يدمنون التفكير في الطبيعة والنفس والقضايا العليا للوجود، المغمورين بالمنازعات والشهوات، غير المعنيين بالسؤال عن وضع الإنسان في الحياة، الخاضعين لسلطان الأنانية الفردية والقومية، الجاهلين خطوات سير الإنسان منذ وجوده ساذجاً إلى صيرورته عالماً معقداً، الذين لا يسألون عن ماضي الإنسانية ولا يتساءلون عن مستقبلها، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كأنهم أوراق أشجار تجف وتذروها الرياح، أو تحرق في المواقد، أو تطرح في المزابل والعفونات، أو كأنهم ذئاب عاتية خلقت للشر والفتك، أو خرفان بلهاء خلقت للذبح والافتراس، أو ذباب قذر يطير ويحط على الأقذار. . . الذين لم يأخذوا من الطبيعة أسرارها أو يعملوا فيها عملا عظيماً، أو يصافحوا يد الله على بساطها ويأخذوا منها بعض أفانين صنعها. . . الذين يولدون عمياً، ويعيشون عمياً، ويموتون عمياً. . . قد يبدو هذا الكلام لدى هؤلاء بعيداً أو مستحيلاً. . .

ولكن الذين تركوا حماقات الأنفس وضلالات الجهل وتجردوا للحق، واتسعت نفوسهم باتساع الطبيعة، ونظروا لقضايا الوجود نظرة الاهتمام، وعرفوا أن وسائل تحقيق هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>