للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين. وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب ويدخن قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ؛ إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة فيتحرك، وتدفعه إلى العمل فيعمل. فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام حين تصبح أمرا مقضيا لا ينصرف عنه، ولا سبيل إلى التخلص منه.

إذا كان هذا كله صحيحاً، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا، كان لا يحس شيئا ولا يشعر شيئاً ولا يقرأ شيئاً ولا يرى شيئاً ولا يسمع شيئاً إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو الرضى، وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء. وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أما عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح، ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائماً كما كان يكتب يقظاً، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا، وكثيرا ما كان يقرأ عليهم فصولا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء، وبما يمسه من الناس ومن الحياة، وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحوا عليه أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>