للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لكأنما كانت ملكاته الأدبية عوضاً معادلاً لمصائبه الجسدية، وكأنما خلق بنصيب عشرين في الذكاء وفي البلاء على حد سواء

تعلم في صباه ست لغات بغير معلم، وهي الإغريقية والعبرية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والأسبانية، فضلاً عن اللاتينية!

والتهم مأثورات الإغريق واللاتين جميعاً وأشربها إشراباً حتى أصبح وكأنه واحداً من أدباء يونان الأقدمين

ولما ضعف بصره طفق يشكو في رسائله إلى أصدقائه ويقول: لا أقرأ اليوم إلا ست ساعات في النهار!

وفجع المسكين حتى في هذا فنهى عن القراءة وعن الإصغاء!

ووجب عليه أن ينفق أيامه في قرية لا يشغله فيها شاغل غير التفكير الذي يحرق رأسه وجسده ويضنيه ولا يريحه. ثم ذهب إلى روما وهو مطبوع على الجد ومعاشرة العقول الكبيرة فضاق بها ذرعاً واحتواها أشد احتواء، وعاب على أهلها أنهم قوم هازلون لا يقرنهم بأهل قريته الذين يعرفون الجد وإن كانوا جهلاء لا يعرفون

صورته التي صور الدنيا عليها أشبه شيء بالرسم المظلل الذي لا لون فيه غير السواد، ولكنها مع سواد لونها صادقة في كل شيء ما عدا التلوين: صادقة في خطوطها ومسافاتها وأشباهها وكل لمحة من ملامحها، ولا خداع في نقل شيء منها على الإطلاق لتسويغ رأى أو لمجاراة عقيدة. فهي الأمانة التي لا أمانة بعدها في الشعور وفي الأداء، وهي الفحولة التي تعلو به فوق مصائبه وأشجانه وبلاياه، كأنه لا يتشاءم لأنه محروم من رجاء، بل لأنه يرثي للدنيا وما فيها من رجاء

لهذا العقل المتوهج عذره إذ رأى الحياة شراً ورأى أن الموت ختام لمأساة الحياة لا شر فيه. أو كما قال: (إن الموت ليس بشر لأنه ينجو بنا من جميع الشرور. وإذا أخذ من الإنسان شيئاً حسناً فهو كذلك يأخذ منه الرغبة فيه. إنما الشر الأكبر هو الشيخوخة التي تحرمه كل سرور وتبقي له اشتهاء ما حرمته، ووصب الداء العياء؛ ومع هذا يفرق الناس من الموت ويتوقون إلى الشيخوخة!)

ولهذا القلب البائس عذره إذ رأى كل حسن في الدنيا قريناً للموت زميلاً للفناء. وأي شيء

<<  <  ج:
ص:  >  >>