للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أبعد عن هذه المزاملة من (الموضة) أو (الجديلة) التي يلهج بها الحسان وغير الحسان؟ أي شيء فيه من مخالفة الموت ما في دكاكين الزينة التي تتجدد فصلاً بعد فصل وموسماً بعد موسم؟

لكن ليوباردي يعقد المحاورة بين المنية والجديلة فإذا هما شقيقتان وزميلتان. لأن الجديلة كالمنية موكلة بالقضاء على كل موجود وتقبيح كل حسن بعد استحسانه، وتغيير كل عادة ألفتها الأبصار والأسماع، وهي في سلطانها نافذة لا هوادة في أمرها، ولا مناقشة لأحكامها، ولا حيلة معها غير الخضوع والتسليم

تنادي الجديلة أختها: يا منية! يا منية! فلا تلتفت إليها المنية ثم تعيد النداء فتجيبها متبرمة معرضة: إليك عني. إني آتية إليك لا محاولة، ولكن حين لا تريدينني ولا تهتفين باسمي. فتفهمها الجديلة أنها أخت شقيقة وليست (بعميلة) أو داعية أو فريسة

وتتفاهم الأختان بعد حوار كأمتع ما يكون الحوار، ثم تتداعيان إلى السباق وكسب الجائزة في مضمار الهدم والتبديل. فتقول المنية لأختها: ساعديني!

وتقول الجديلة لأختها: لقد ساعدتك حتى الآن أكبر مساعدة في مقدوري، وتركت عادة الموت بغير تبديل، وقد غيرت فيما عداها جميع العادات!

وتشفق الأخت الكبيرة أن يجيء اليوم الذي تبطل فيه هذه العادة كما بطلت عادات

فلا تدعها أختها الصغيرة على إشفاقها وحذرها، بل تجلب الطمأنينة إلى ضلوعها التي لا قلب فيها، وتشرح لها كيف تساعدها في بإرهاق الأبدان وتسميم العقول وتعويد الجوارح ما يضني ويسقم ويسلب الغبطة بالحياة. بل تقول لها إنها جعلت من (الموضة) في العصر الحديث أن يعيش الناس لحاضرهم ولا يحفلوا بعد موتهم بالذكر الحسن والخلود المجيد، وقد كان كلاهما حظاً مسلوباً من المنية وقسما تستبقيه الحياة بعد الفناء. فإذا خسرت الحياة هذا القسم النفيس فذلك كسب عظيم للمنية، وتلك هي الهدية التي تبذلها الأخت الصغيرة البرة للأخت الكبيرة التي لا تحفظ الجميل. وعلى ذلك تتفق الأختان

وللشاعر المتشائم محاورات كثيرة على هذا النحو الطريف، يعجب القارئ للعبقرية التي صبغتها بصبغة الفن الجميل وهي غارقة في الحزن والألم والسآمة، وخلقت منها للعقول متعة باقية وهي تنعى على كل متعة وكل بقاء

<<  <  ج:
ص:  >  >>