للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد ظهر في التصوف منذ امتازت معالمه ووضحت رسومه أهل الصحو وأهل السكر؛ الأولون يضبطون أنفسهم ويؤلفون بين أقوالهم وأعمالهم وبين الشريعة، والآخرون يرمون حين يغلبهم الوجد بالكلام المغلق المبهم أو القول لا يوافق الحدود التي حدتها الشريعة للعقائد والأعمال

وأرى أن أوضح مثل لهذين الضربين: الجنيد البغدادي وأبو يزيد البسطامي. كان جنيد وقوراً رزيناً لا يغلبه الوجد على نفسه؛ وأبو يزيد - كالشبلي البغدادي - يرمي بالكلمة بعد الكلمة ينكرها الناس ويضجون منها أو يعجبون لها ويتحيرون، فيجتهد الجنيد في تفسيرها وتأويلها. وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج أمثلة من هذا

وممن التزموا المحجة الواضحة كالجنيد جماعة ألّفوا في التصوف وبينوا حدوده وملاءمته للشرع، مثل أبي القسم القشيري صاحب الرسالة، والسراج صاحب اللمع، وأبي طالب المكي صاحب قوت القلوب، والغزالي

- ٣ -

والخلاف بين العلماء أهل الظاهر، والصوفية أهل الباطن، قديم مديد نشأ منذ صار التصوف طريقة واستمر إلى يومنا

وحسبك أن تقرأ ما كتب ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): (العلماء يرمون الصوفية بالخروج على الدين، والصوفية يرمون العلماء بالوقوف على الصور والأشكال، ويرون أن علمهم لا يغني في سبيل الله فتيلاً). وكم سخر الصوفية من أهل الظاهر ووصفوهم بالغلظة والجفاء والقصور عن إدراك البواطن وتذوق المواجد. وليس يتسع المقام لبيان هذا

وقد وجد العلماء في سير بعض الصوفية ما يقوّي حجتهم ويصدق دعواهم. وقد تسمى باسم الصوفية أفراد وطوائف جعلوا التصوف وسيلة إلى مآربهم وشهواتهم؛ كما قال المعري:

لو كنتم أهل صفو قال ناسبكم ... صفويةٌ فأتى باللفظ ما قلُبا

جند لإبليس في بدليس آونة ... وتارة يحلبون العيش في حلبا

والشكوى من الصوفية قديمة نجدها في الرسالة القشيري المتوفى سنة ٤٦٥. ويقول في مقدمة الرسالة: (ثم اعلموا حكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق

<<  <  ج:
ص:  >  >>