للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أعتذر ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعا وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل لك أني سأردك إلى حيث تقيم؟!

- ٣ -

وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة وكنت أحس اختلاف الأحياء وتباين الأجواء فيما يصل إلي من أصوات الناس وحركاتهم، ومن اضطراب الأشياء من حولنا كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب أن يتنحوا له عن الطريق، أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.

كان الحي رشيقاً أنيقاً، وكان الجو سمحاً طلقاً، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق واشتد أمامنا الزحام وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره، وتحذيره وكثر من حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يرعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم نتفسح الطريق وتتسع، ويصفو الجو، ويخف الهواء، وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنا، وتمشي الخيل رفيقة، ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضها الأخاديد فالعربة تقفز بنا قفزا والسائق يهز سوطه في الهواء ويحذر وينذر في هدوء ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يبيتون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله ونضحك من السائق خاصة وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه ويضرب الهواء بسوطه ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى

<<  <  ج:
ص:  >  >>