للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

داره انقطع اللعب وخبّأ كل طفل لعبته ثم لا يلبث الشجار أن ينشب بينه وبين الأطفال بنين وبناتٍ بغير رفق؛ فالقوي يثبت له فيضربه، والضعيف يفر منه فيقذفه، والبنت ترتاع فلا تدفع عن لعبتها يده. والبيوت على الحارة مفتحة الأبواب لا يحرس أمتعتها غير الأمانة؛ ولكن المجرم الصغير ينتهز غفوة الأمانة في نفسه فيدخل هذه البيوت ليسرق حبلاً أو وتداً أو كرة صبي أو بيضة دجاجة. فلما أيفع دخل (صبياً) في خدمة (جدعان) القرية؛ وهم في الريف كالفتوات في المدن، دأبهم الشجار والسرقة والفجور. كان لهؤلاء الجدعان ليال مذكورة بالسطو واللهو؛ فكانوا إذا فرغوا من تدبير الجريمة وتنفيذها، أقاموا لزملائهم (وعملائهم) ولائم يكثر فيها اللحم والخمر والحشيش، ويقوم عليها أحداث المجرمين مقام الخدام والنُّدُل، كما يقومون في تدبير الجرائم مقام الطلائع والرُّسل. ولا أطيل عليك فقد صغَّرت هذه الصورة في هذه الجملة:

(نشأ من لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا؛ أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شيئاً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجًّار والمجَّان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. . .)

فأنت ترى هذه الجملة على إيجازها قد صورت نشأة هذا الطفل على الإجرام بالمعنى الذي لا تزيد فيه، وباللفظ الذي لا بد منه، وبالبيان الذي لا بأس به؛ وإذا سلمت الجملة الفنية من اللغو والخطأ والغثاثة سلم فيها عنصر الصدق وهو جوهر الأدب

ولكنك مع ذلك لا تعدم ناقداً يزعم أنه يضع (الميزان الجديد) للنقد في (الثقافة)، ثم يجازف باستخدام علمه بالأدب الغربي، في الحكم على أساليب الأدب العربي، فيعتسف الرأي اعتسافاً لا يتسع له فيه عذر. فهو ينكر منطق العقاد، ويظلم شعر علي طه، ويغمز أسلوب طه حسين، ويحكم على سائر الأساليب المعروفة بمجافاة (الموسيقى والإيحاء والطبيعية)

هذا الناقد الفاضل قد اختار الجملة التي اخترتها ليبرهن بها على كذب الأسلوب لا على صدقه! فهو يقول أن أسلوبها أشبه بأسلوب (المقامات) (كذا والله!) وأن القارئ يقرأها (فلا يتصور أن مثل هذا الرجل موجود) ودليله على ذلك أن وجوده لو كان ممكناً ما سألني القراء عن حقيقته. والواقع أن الذي سأل في الرسالة طالبٌ في المعهد الجنائي، وما كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>